زمن الحدود؟

إلى استاذي العزيز رياض عِبدالله

كلما استغرقنا في النظر في القديم، تكشّف لنا أن هناك خطأ ما في هذا العصر.

ما يلوح  لنا من حُسن المظهر من نظام و تقنية و وفرة في المصادر و"المعلومات" و"المعارف" و إتاحة فرصة التعليم للجميع و وصول  المادة الإعلامية إلى مختلف المستويات و التشارك في طبيعة و مصادر الاستهلاك لكل الطبقات، كل ذلك، لا يبدو أنه يعود بالفائدة التي كانت تعود على الأفراد والمجموعات في الزمن القديم. الزمن القديم. إن هذا الظاهر الواعد - كما نفترض -   بجوّ إبداعي من ناحية كمية - عدد - و من ناحية نوعية، أصبح مُربِكاً أكثر فأكثر كل يوم.

ها نحن نشعر بأن لا شئ جديد يمكن أن نأتي به. الاختراعاتٌ كلها سبقت عصرنا، و الأفكار العلمية، و الأعمال الأدبية الكبرى، و الفنون و الموسيقى، لم يعد تأتي في زماننا، إلا اختراعات تجارية و استهلاكية. لنقل، على الأقل أن هذا هو الانطباع. و المعنيًُ بالإبداع و الإختراع و التجديد هو ليس نحن بالطبع، و أغلب الظن أنه من حظ السابقين أو من حظ النادرين أو في أمم خير منا في أوضاعها اليوم، إلا إذا استثنينا ما جاءت به الحداثة و تقنية الاتصالات و البرمجيات أو ما يعتبر "سراً" لا تريد أن تعلن عنه القوى العظمى .. إلخ ..

كل ما يهمني مما كتبتُ أعلاه، هو إيصال الإنطباع السّائد و لست أُريد أن نُحَدَّ  بالأمثلة المذكورة.

سوف أتطرق لنطاق واحدٍ و أستشف بالصور و الأمثلة تشخيصاً لواقعنا اليوم، و سيكون نطاقي هو النشاط الموسيقي للمشتغلين بين الأمس و اليوم و أختار بعض المحطات المهمة.

أذكر أنني كنت أتكلم مع أستاذة بيانو و تشيلو و مغنية أوبرا بولندية، قلت لها: هل لك مؤلفات أو كتبت بعض الموسيقى؟ قالت لي. لا، للأسف، لست موهوبة، و ليس هناك شئ يستحق أن أكتبه. إن ما هو موجود في التراث كفيل بتغطية ما سنقدمه في عمرنا الوظيفي.

أستاذة لي في عزف الكمان، عازفة كمان أول في الأروكسترا، كندية، كانت تقول في رد على سؤال مماثل، لا يفترض أن أؤلف. ليس من حاجة لذلك.

إن هاتين الاستاذتين، مثالان لخريجي المعاهد العليا في عالم الموسيقى الأوروبية التقليدية الذين يتخرجون و قد تخطوا  كل الامتحانات المطلوبة في المنهج و استحقوا شهادات من جامعات و رخص بالعمل  و الاحتراف و التدريس الرسمي. هذا ما سيعلّمون تلاميذهم و الأجيال من قناعات و منهج انتاج.

هذه الظاهرة بدأت تتسلل لنا في الشرق. موسيقيو اليوم، أغلبهم خريجو معاهد شبيهة بنفس النظم و المنهج و التفكير.
و منهم من تعلم بطريقة شبيهة، عن طريق الكتب والوسائل الأخرى أو على يد خريجي معاهد خارج النظام الرسمي. و في مقابل هذه الشريحة، هناك من يتجاوز هذه المعاهد و من يتعلم بطرق "مختلفة" أو يتعلم بنفسه. لا يجب أن نستهين بما يمكن أن تكون  عليه النتائج.




طرق التعلم الموسيقي خارج إطار المعاهد في القديم، كانت بالتتلمذ على أستاذ و يتقدم التلميذ و يتعلم من أستاذ أو أكثر و تعلمه المنافسة و الخبرة و يتعلم من  المشتغلين معه في المجال جراء الاحتكاك. هناك نظم مختلفة تنتهي بـ"التحزيم" و يتواصل التعلم غير المنهجي  غير المحدود بالصفحات والموضوعات والمهارات والإمكانيات. هو ليس مادة محدودة. هو سلوك، منهج حياة، و طرق عمل و إنتاج. هناك  "المشق"  و هناك شهادة للتلميذ من الاستاذ بالمصاحبة و الحضور و الترشيح و التكليف و ما إلى ذلك.



هذه صورة ما قبل عصر الاسطوانة: الغرامافون. أما بعد أن تمكنّا من تسجيل العزف و الغناء و الموسيقى عموماً، و أصبحت سهلة المنال، تصل إلى شريحة أكبر و أصبح يمكن استعادة العزف و حفظه و تقليده، ازدادت شريحة المتعلمين و أصبحت التسجيلات وسيلة أخرى أو وسيلة مساندة من وسائل التعلم و التتلمذ حتى لو لم يكن الاستاذ قريبًا من التلميذ أو معاصراً له أو حتى على قيد الحياة.

صورة من الأساتذة الكبار في الشرق، أذكر المعلم و المؤلف و العازف البارع على آلات عديدة، الاستاذ جميل بك الطنبوري. لقد سجل أول عمل له سنة 1903م. كم أحدث من أثر حين سجّل و انتشر؟




جميل الطنبوري أصبح المثال الأعلى الذي يحتذي به العازفون في الشرق في المِكنة التعبيرية و الأتراك حتى الشبان منهم اليوم، لازالوا يستلهمون منه عزف الأحاسيس و التعبير و القدرات التقنية و فن الارتجال و الجمل ذات الطابع الخاص.

جميل الطنبوري عزف لمن سبقه من مؤلفين من مثل سماعي عشاق عزيز دده، و سماعي تاتيوس أفندي و بشرف تاتيوس أفندي و بشرف حجازكاركرد واسيلاكي أفندي و عزف من ارتجالاته و تأليفه من سماعيات و بشارف و قطع قصيرة راقصة و تصويرية يقلد فيها صوت الأذان و أصوات الحيوانات مثل صوت الذئب و الطير و تهويدة الطفل.

لقد أصابت عدوى الإمكانيات المتقدمة من تلاه و أًصبحوا يقلدونه و يتقدمون و يتميزون و يؤلفون و يسببون عدوى لمن يحتك بهم.




صورة أخرى من الأساتذة الكبار أيضاً، الاستاذ سامي الشوا الذي سجل أول ما سجل سنة 1906م.

سامي الشوا تعلم و برع و اشتهر و عزف قبل عصر التسجيلات. و سامي، سمع جميل الطنبوري، وعزف مما سمع له من بشارف و سماعيات و عزف موسيقى تصويرية و صوت الأذان و معاناة المسافرين و سجل تقاسيم من صنوف شتى و ألف و عزف من تآليفه و طاف البلدان و عزف من تراثها و تفوّق و سجل صوت الأذان و قلد صوت الريف و الطير و التهويدة و البداوة و المدنية.

في عالمنا العربي، سمع سامي و القصبجي و البزري و غيرهم كثير من المستمعين و تعلموا منهم مثلما عايشوا هم العازفين المعاصرين و سمعوا و تأثروا و تعلموا من الستجيلات و سمعوا من حكايات. نعم،  التقنية غيرت شكل الوصلة و ترتيب القطع، و ربما حدّت قليلاً من مساحة الحرية لدى من تعلم من الجيل الذي تلا ذلك و نقلت لهم صورة منقوصة عن الممارسة العملية. لكن، في نفس الوقت، تجلت الكثير من الشجاعة و الخبرة حتى عند من لم يلتق بمن سجل و أصبحت تلك الأجيال تعزف و ترتجل و تؤلف و تسجل أعمالها الخاصة أسوة بمن سبقهم.  كل هذا حدث في نفس الجو التعليمي، اقترب أو ابتعد قليلاً عما ذكرت أعلاه.

صورة للذي سجل تسجيلات في مصر؛ مثلاً، وقد سمع الأصل من عثمانيين و أتراك، أو أرمن أو يونانيين أو عراقيين و فرس وغربيين، بقيت هويته و صوته و روحه في تسجيلاته كعلامة شخصية تميزه عن من قبله؛ بقيت تضفي على التسجيل طابعاً فنياً فريداً و شخصية العازف الخاصة.

هل فكر هؤلاء بحدود تحدهم؟ لماذا نفكر نحن في الحدود و نأنس بها؟

ما الذي جال في خاطر باخ أو  موزارت، أو بيتهوفن أو شوبرت أو عبده الحامولي أو محمد عثمان أو تاتيوس أو جميل الطنبوري أو سامي الشوا أو زكريا أحمد أو القصبجي أو الشيخ علي محمود أو  الشيخ طه الفشني أو خميس الترنان أو محمد القبانجي أو الشريف محي الدين حيدر أو جميل بشير أو صالح الكويتي؟

نشاهد صورة عبدالوهاب عبر مسيرة تسجيلاته الطويلة، يتعلم مقامًا و ينتج عليه أكثر من عمل و يستلذ إيقاعاً و ينتج عليه أكثر من عمل و هكذا حتى تتوسع المعارف والامكانيات والمهارات الانتاجية و العزفية والغنائية و أصبح عنده كل هذه الحصيلة!

هل خطر بخلدهم شبح "الموهبة" التي تخطر لنا كل حين وتعطّل و تثبط جيل اليوم؟ هل فكروا بانتهاء الأفكار غير المطروقة و المقامات و الإيقاعات و القوالب و الحدود التي سبقتهم؟ هل شغلهم شغل يومهم عن انتاجهم الموسيقي؟ هل تحججوا بتواضع صناعة الآلات في زمانهم و الإمكانيات وقصور  المادة التوثيقية في أي شكل كانت؟ كيف كانوا يحفظون ما لم يكونوا يستطيعون تكرار الاستماع إليه مثلما نستيطع اليوم؟ ما كان يبث مرة على الهواء؟ كيف كانوا يشتغلون و يسجلون شغلهم؟  

كيف كانت عندهم كل هذه الوفرة في الانتاج مع ندرة الإمكانيات ؟

هل ضمرت شجاعة جيلنا و تلاشت الجرأة في العزف و التأليف و الارتجال؟

أليست موسيقانا يسري في دمها الارتجال و هو عمود تقوم عليه، يبرهن على شبابها غضُّ التقاسيم و الليالي والموال؟ أليس من قَدِرَ على ذلك هو أقدر على تأليف القطع و الألحان التي هي ارتجالات يتم مراجعتها مراراً و تكراراً و تتم هندستها و صياغتها بتؤدة و "رواق"؟

صورة من القديم؛ هل كان هؤلاء يعيشون من موسيقاهم، في زمن ما قبل المتاجرة بالموسيقى؟ هل دعمُ البلاط  و التقدير و خَطَرُ المُتوقع منهم صنع لهم السبب السحري؟ هل تغيّر ُالمستوى المعيشي أثّر على ذلك؟ ألم تمر عليهم حروب و كوارث  و أوبئة و سنوات عجاف؟

هل كان الوقت عندهم أطول و أكثر "بركة"؟ هل كان هيامهم بالموسيقى لا يشوبهُ منغّصٌ و يكدره الاختلاط و العولمة و تشتتهُ الفوضى  والازعاج الذي يكتنف الميديا و الإعلام اليوم؟
هل كانوا في زمن ما قبل التنظير أكثر اتساعاً في الفكر و سؤالاً و ابداعاً و جرأة؟ هل التنظير أصبح تحديداً وقيداً أو سبباً لتقليل و إضعاف الثقة و تصغير مساحة الحركة و الحرية؟

ما الذي يجعلنا مقتنعين بفكرة "الموهبة" و ما الذي يجعلنا نحمل انطباع أن لا جديد يمكن أن نقدمه غير إعادة تدوير ما لدينا من موسيقى و الاكتفاء بقليل من التقاسيم والتأويل والارتجال؟ لم نَنظر إلى أعمال من سبقنا نظرة إلى مُعجَزٍ لا يمكن أن نصوغ مثله و أحسن منه؟

هل جال ببال جميل الطنبوري أنه مازال شاباً ولم يحن الوقت لتأليف القطع و الخروج بجديد في الأداء و التمكن من الآلة والتقسيم والتعبير؟




فرتس كريسلر .. ألف قطعاً باسم مستعار .. في الوقت الذي خَشِيَهُ الكبارُ من العزّيفة في قدرته العزفية و تعبيره و لون صوته القادم العجيب  و أسرّوا إلى بعضهم بأنه من الأولى بهم تكسير كماناتهم على ركبهم من هول ما سمعوا منه.
جميل الطنبوري اعتمد على نفسه و تعلم بنفسه و استقل و فكّر و تجرأ و أسس حدوداً جديدةً في أراضٍ لم تطرق و لم تداس. سامي الشوا صنع شخصية الكمان العربي الكامل كما يجب أن يكون عليه الأنموذج للعازف والموسيقي. القصبجي جرب و أتقن و اخترع و تمكن و ألف ولحن و خطّ خطا جديداً. جميل بشير .. صالح الكويتي ..  ما أكثر تَرِكَتَهم من تسجيلات و فكر و أثر و تلاميذ و تجريب في الآلة و الإمكانيات و من تأليف و تجرؤ على تجاوز الحدود و رسم حدود جديدة. حينها، كان من السهل أن نسأل عن الفنان ما أنجز .. و ما الذي ينجز.  

الموسيقى العظيمة اليوم تنتعش بشبابنا من المشتغلين و من السميعة و المتابعين بوعي. بالأمس كان الاحتفاء بإصدارات و فعاليات لمرور مئة عام على رحيل الطنبوري و خمسين عامًا على رحيل القصبجي و قبلها خمسين عامًا على رحيل سامي الشوا. و كل يوم يظهر علينا كنز من كنوز الماضي من تساجيل و وثائق و صور و كنز يولد اليوم و كنز يأتي في الغد. إن نبع موسيقانا دافق و عذب و ملفت للانتباه و "العين عليه".

نحن نعوّل على نَفَسٍ نقي من الموسيقى العظيمة و على شباب مهيب الهمة والإيمان و العزيمة. الأمس القريب لم يكن مثل اليوم و اليوم ليس كالغد .. كل يوم يأتي يضجّ بحياة أكثر من سابقه.

لن نجرب أجنحة لا تطير بنا. نحن نعرف اليوم، تماماً، كيف يكون التحليق.

::. فاضل التركي


تسجيلات



كيف يسحرنا دولاب في بضع من دقيقة .. كيف نذوب مع الإعادات الجديدة و التنويع الذي لا ينتهي؟


 

جميل بك الطنبوري على الكمنجة - الأرنبة - يعزف بشرف واسيلاكي و يقسم .. و يكمل



الشيخ علي محمود و سامي الشوا على الكمان في" يا نسيم الصبا"


كريسلر في "الحب المر" في فترتين من عمره مختلفتين. مقطوعة كانت باسم مستعار في أول الأمر.



صالح الكويتي في لونغا رست


سليم النور في سماعي أوشار و تقاسيم صالح الكويتي 

تعليقات

المشاركات الشائعة