لعبة السمع!

لطالما كانت هناك لعبة. كيف نستمتع باللعبة؟ نحتاج أن نفهمها، نعرف قوانينها و تاريخ تطورها؟ كيف نلعب و نفوز ونخسر؟ نتعلم من اللاعبين؟ نلاحظهم أو نحتك بهم؟ نعرف سيرتهم؟ نتعصب لهم أو نميل و نتحزب؟

لنأخذ  اللوحة الفنية. لماذا هي مؤطرة بإطار؟ لماذا عادة ما يكون مُذهباً و في زخرف معروف، وسماكة متوقعة؟

في الحقيقة، اللوحة الفنية، الزيتية الألوان، تُرسم لجمهور يطلبها، خبير بصياغة معينة، و هيئة معروفة، و هناك تكوين و علاقات بين العناصر المرسومة. هناك أيضاً الإضاءة والألوان والرموز التي تتعلق بزمن اللوحة والمنطقة الجغرافية. في اللوحة الخطوط والشخصيات والمعاني التي يتوقعها خبير بما يجب أن يفهم ويعي منها.



نحن نعرف أن اللوحة الفنية ترسم لطبقة من الجمهور معينة. ماذا ستكون موضوعات هذه اللوحات؟ نلاحظ أن لها دلالات مُلكّية و رغبات  برجوازية و و لمحات اجتماعية واقتصادية وتاريخية. لكن المجتمع الفنان الذي ينتج هذه اللوحات له عالم خاص به إرث و نثقافة خاصة، و هناك عملية تعليم ومراحل لظهور الفنان  ومريديه. المجتمع هذا يهمه أن يعرف  متى رسمت وعُلقت وعرضت ولمن رُسمت، ودلالات تبدل المعنى من بعد أن تُنقل وتُشترى وتورث وتباع. هذا ظل من ظلال هذه المقالة استعيره من الراحل بالأمس القريب، جون برجر، الفنان والكاتب والمفكر المتمرد الفريد.

ماذا عن الكتابة؟ أليس في كتابة المقالات لعبة؟ قارئ المقالات الجيد، يعرف المقالة الجيدة، التي لها هيكل معروف، وتسلسل شكلي وتسلسل منطقي، وتصنيفات معروفة، وأساليب، وقدر من المحتوى المتوقع. الاتب الجيد يفصل ويخيط مقالته لشريحة متوقعة من الجمهور، سواء كانت مادتها خيالية أو معرفية أو صنعة مبتكرة جديدة. هذا ظل آخر.

حتى في العلوم، التي تبدو جافة، وكأنها حقائق كونية لا تقبل النقاش، هناك لعبة!  في فكرة المنهج العلمي، وفكرة صناعة النموذج والافتراض والاختبار والتجريب والتنبؤ و تأسيس النظريات و تطبيقها كتكنولوجيا، هناك لعبة. نظرية التطور والنسبية و فيزياء الكم و ، كلها أتت من لعبة لها أصولها. هذا ظل مُهم.

تذكرون كيف نبرهن في الرياضيات؟ البرهان الرياضي، يبدأ بذكر البديهيات، و الفرضيات، والحقائق والمسلّمات أولاً. ثم نتدرج منها بتقنيات التحقق والاستقراء ونبني من لبنات صغرى لبنات أكبر، وكل خطوة نصبح أكثر قرباً واقتناعاُ حتى نصل إلى البرهان، هكذا، من يقرأ البرهان ويتفحصه، يصبح مقتنعاُ بالحقيقة النهائية. هذه الحقيقة النهائية، تصبح حقيقة مستقلة ومسلّمة كبرى يمكن أن تمضي مستقلة أو نوظفها كمسلمة نبني عليها ما يعتمد عليها. هذا ظل في غاية الأهمية سنعود له.

و تعميماً، في الرواية، القصيدة، الشعر، النثر، الصورة الفوتوغرافية، المسرحية، السينما، الأخبار، صفحات الإنترنت، كوب الشاي الجيّد، وملابسك ونظارتك وهاتفك. دائماً، هناك "لعبة" و "ممارسة"، و"شعائر" و "طقوس". هذه ظلال أخرى مهمة.

لنحاول هنا أن نرى اللعبة في الموسيقى تحت هذه الظلال، ولندلل على ذلك بالأمثلة. لنرى اللعبة في السمع، وبالبناء على السمع، نفهم لعبة الموسيقى في التأليف والطرب والعزف والإدهاش والسحر وصناعة قيمة خالدة.

تقاسيم حجاز سامي الشوا


هذا التقاسيم سُجلت لخبير سمّيع، حتماً، في مخيلة سامي الشوّا. خبير يعرف أن التقاسيم، ارتجال وابتكار، مشتملاً على أنماط من الجمل الصغيرة والكبيرة، الموجودة في تقاليد التقاسيم وتلك المخترعة الجديدة. السميع، يعرف أن هذه التقاسيم، تقاسيم كمان، وسامي الشوّا، "أمير الكمان" سيأخذ السامع في حدود الكمان الذي يحدّه التعديل و طبقة الصوت و عدد الأوتار و أسماؤها المختارة، و يأخذ السامع إلى أماكن جديدة ببراعات و تقنيات و خبرات العزف و إمكانيات الكمان و قوسه و مساحاته الواسعة. السامع لديه ثقة كبيرة، أن هذا العازف يعرف ماذا يفعل، و كيف يدهش و يسحر. لديه مكنة في كل المهارات الموسيقية و المعارف والمقامات والإيقاعات و التعبير و ما تعلق من تجويد للغة و الشعر والمعاني فضلاً عن صيانة و تطويع الآلة على أحسن ما يكون.

لنسمع و نتأمل معاً.



هذه تقاسيم مرسلة. لا يحكمها إيقاع دوري منتظم واضح، تتقسم عليه الجمل في الطول لتبدأ وتنتهي و تكبر وتصغر بناء على وحدة قياس زمني. ربما نسمع هناك إيقاع، لكنه حر تحكمه تفعيلة. هذه التفعيلة، تأتي من اللغة التي يعزفها سامي الشوّا وهي  لغة عربية و لهجة مصرية. نسمع الجملة المعزوفة منذ البداية تقول:

فاعلاتن، تنتهي عند الثانية 7، تليها مفا، مفاعي، لن، تقف عند الثانية 13، ثم متفاعلن تنتهي عند الثانية 15 و هكذا حتى نهاية التسجيل. لنلاحظ، الفواصل بين الأنماط التي يخترعها، و قد وضعت الفاصلة للتنبه لها.
هنا كان تركيزنا، ونحن نلعب لعبة السمع معه، أن نُطلّ على التفاعيل. ونحن في نحدّق عن قرب، نعرف أن هناك عود يعزف معه نغمة متواصلة كخلفية منذ الثواني الأولى ونتناساها فوراً. نحن في ذات الوقت، لو انتبهنا، سمعنا حركة القوس ونزول الأصابع وقوة وخفة الضغط الحركة والتعبير ورأينا القوس ينسحب نازلاً أو صاعداً، مسرعاً أو متوقفاً. لو انتبهنا سمعها متى يبح الصوت ويضعف ويقوى. نحن ننسى أن هناك عازف، فنسمع في الموسيقى، سؤالا، واستفساراً وجواباً غير مقنع، ثم جواباً أكثر أقناعاً. نسمع تفصيلاً وتقطيعاً للمعاني، وتقطيعاً للأفكار على مستوى التفاعيل وعلى مستوى القطعة ككل.

التقاسيم، هنا، تنقسم على المستوى الكلي إلى ثلاثة أقسام كبيرة. القسم الأول منذ بداية التسجيل حتى الثانية 28، حين تأتي النقطة لتختتم مقدمة المقالة. هذه المقدمة التي أخبرتنا، عمّا سيكون في بقية التسجيل وما هي طبيعة الأجواء الدرامية المتوقعة. يلي ذلك متن المقالة، من الثانية 29 حتى الدقيقة 1 و32. في المتن، يبدأ نقاش الفكرة، وسامي  هنا، من الثانية 29، يقول لنا أنه بالنسبة للأمر كذا، هو كذلك، بالنسبة لكذا، هو هكذا، ويستمر في الشرح و التفصيل والتصنيف حتى نصل لتفاصيل دقيقة و تقطيعات و صمت و تنويع و فصل بين هذا وذاك بتدرج درامي و محاولة إقناع و نتهيأ للانتهاء من النقاش منذ الدقيقة 1 و 20 ثم تأتي القفلة، "النقطة"، منذ الدقيقة 1 و 29 ثانية و نختم عند دقيقة و 32 ثانية.  أما هذه الحكاية فخاتمتها تبدأ منذ الدقيقة 1 و 36 ثانية. ويستمر  التقطيع بنفس المنطق، ولكن، نمعن في السير المقامي والتطور في الفكرة، والتطور الدرامي لنصل إلى الذروة تدريجياً. نتهيأ للختام والتلخيص  منذ الدقيقة 1 و 54 ثانية و نلخص المعاناة مجدداً و نقفل عند الدقيقة 2 و 29 ثانية و نقفل الموضوع قفلة أخرى أخيرة محكمة بعدها مباشرة حتى الدقيقة 2 و 38 ثانية.
ها هي حكاية، و مقالة غاية في الإقناع، منذ البداية، فيها فكرة، وفيها جماليات ومكنة معرفية و تقنية و ابتكار غنيّ يجعلك تستعيد لتسمع من جديد كأنك تسمع التقاسيم هذه لأول مرة.


سامي الشوا - مائية - فاضل التركي


قوانين لعبة التقاسيم معروفة، و دور اللاعبين فيها معروف و متوقع و تحسب له حساباته. و ها هي لعبة انتهت، و تظل أبدية تستعاد و تستطاب و تتجلى فيها جماليات كلما حدقنا ملياً في جنبات هذه اللوحة الخالدة.

دولاب القصبجي في "ليه تلاوعيني"


الدواليب، هذه الألعاب المتناهية الصغر، لعبتها كبيرة. في موسيقانا الشرقية، تُدحرجُ الدواليب على قصرها، المطرب الكبير، متسلطناً في هوّة المقام،  وتضعه على السكة تماماً هكذا في لحظة. في دولاب القصبجي، من الرست، في أغنية "ليه تلاوعيني" لعبة مدهشة خاطفة. هو مكون ثلاث جمل و "قفلة السِّكة". العجيب أن  القصبجي هنا، يرتب هذه الجمل بعدد الضربات الافتتاحية، 1 ثم 2 ثم 3، و يرتب كل جملة تريبًا نغمياً في نفس الوقت.



الدولاب طوله 15 ثانية فقط. الجملة الأولى تبدأ بضربة "واحدة" على الصول، نواصل حتى الثانية 5. ثم تبدأ الجملة الثانية بـ "ضربتين" من "الفا" و تنتهي عند الثانية 9. ثم تبدأ الثالثة بـ "ثلاث" ضربات من "المي" و تكون في غاية الانفعال الدرامي هابطة إلى قرار الصول الأول عند الثانية 13  وترتد من المي إلى مستقر الرست، عند الثانية 15 بشكل هابط، قفلة، وهو ما يجب أن يقفل عليه الرست في السيرة التقليدية و هكذا استقرت أم كلثوم لتغني، ليه تلاوعيني.

لو قمنا بعملية "تجريد" كامل للدولاب هذا، فسوف يكون في الإيقاع 1 2 3 4 – صول في 1 و فا في 2 و  مي ري معًا في 3 و دو 4 – و الدو هنا مستقر الرست.

الدواليب، قد تبدو هامشية، لكنها ليست أقل حنكة وحكمة  و أهمية في الموسيقى من غيرها، أعيدوا سمع هذا الدولاب الضئيل و انتبهوا للعبة العزف و التطريب المُركَّز و الهيئة الهندسية والمنطقية المحكية‘ في جو من الهتروفونية و تمكن كافة أعضاء التخت وبراعتهم.

سماعي نهاوند مسعود جميل


لعبة السمع في السماعي تعتمد القالب في المحل الأول. لكن الموضوع أبعد من ذلك بكثير. في هذه اللعبة، نستخدم إيقاع السماعي ذي العشر نبضات، و يمكن وضعه في وزن: مستفْ علن فاعلن. و قالب السماعي يفصل على قالب كالتالي: "خانة" و "لازمة" و يطلق عليها أحيانا اسم "تسليم١"، مكون من خانات  ثلاث في إيقاع السماعي، و الخانة الرابعة تتبدل و تكون في إيقاع مخالف  عادة ما يختتم باللازمة. الخانات قد تتكرر، واللازمة قد تتكرر حينما يحين دورها. والخانة الرابعة تكون ذروة العمل تحلق بالسامع لتكون هي النهاية أو يختتم العمل باللازمة. لا يهم أن نتذكر هذا كثيراً، و لنتناول ذلك عملياً فوراً.

سنختار لعبة سماعي مسعود جميل الطنبوري، النهاوند. هذا السماعي مسبوك بطريقة محكمة، تكفي ليكون مسعود جميل مؤلفاً جديراً بالإهتمام، لو افترضنا أنه لم يؤلف غيره. ولكن نضيف إلى هذه اللعبة تفسير كبار العازفين الذين قدموا هذا التسجيل. إن لعبة القطع الموسيقية، في شكلها المغلق بالقالب والتأليف، تأخذنا إلى خبرة وتجربة  مفتوحة جديدة كل مرة نعزفها، خبرة ترتقي بها خبرة العازفين وإعادة تفسيرهم وفهمهم لها وإحساسهم  بها وتعبيرهم عن المحكي فيها.

أختار لكم هذا التسجيل الذي كان من عزف ثلاثة من كبار العازفين في تركيا هم كما يلي. على طنبور القوس – اليايلي طنبور إرجومنت باتاناي، وعلى القانون خليل كارادومان و على العود إرغن كيزيلاي. التسجيل تتناوب فيه براعات العازفين الثلاثة في شكل هتروفوني، و تجد العازف ينطلق و ينفرد و يعود إلى السرب، والسرب يعجبك كل الطير فيه وهو يتقلب و يتفنن في التحليق منفرداً في المجموعة المتماسكة.





قبل الشروع في السماعي، يدخل اليايلي طنبور بتقاسيم من روح السماعي، الذي سيأتي كالقدر بعد قليل.
يبدأ السماعي بالخانة الأولى مع الثانية 57. الخانة الأولى تنتهي عند الدقيقة 1 و 23 ثانية.
يلي الخانة الأولى اللازمة، تبدأ  من الدقيقة 1 و 25 ثانية، وتنتهي في الدقيقة 1 و الثانية 54.
تليها الخانة الثانية، من 1 و 55 ثانية، حتى 2 و 23 منتهية بجسر يربطنا باللازمة مجدداً.
اللازمة تأتي مجدداً، بنكهة مختلفة الآن و بمعنى أعمق، حتى تنتهي عند 2 و 53.
يلي ذلك الخانة الثالثة، و التي تبدأ بانتهاء اللازمة و تنتهي عند 3 و 23.
تبدأ اللازمة مجدداً، وتنتهي عند 3 و 52.

ها هي خانة الذروة. الإيقاع ليس سماعياً، و هو هنا دور روان ذي السبع نبضات.  لكننا نسرع و تتسارع الدراما و الانفعال حتى نتوقف في 4 و 58 ثانية.

ثم تعود اللازمة على إيقاع السماعي. ها هي تعود ببطئ وتنتهي في 5 و 28 و تعيدها المجموعة مرة أخرى بسرعة و حركة لتختتم ببطئ مجدداً في 6 و ثانيتين و هكذا كان اختتام هذا السماعي.

لنسمع مجدداً ما يحدث و نلاحظ عن قرب. نبدأ من بداية التسجيل.

دخل اليايلي طنبور مسترسلاً بنكهة من التسليم ثم بدأ السماعي بالخانة الأولى. الخانة الأولى تضع خيوط الحكاية الأولية. لكن لاحظوا، تفصيل الحكي، في جمل مقطعة، فكرة فكرة، تفصلها مواضع الصمت التي تعبر عن الفواصل و النقاط و علامات الاستفهام و أخذ نفس و مواصلة الشرح والتفصيل والتعبير. لاحظوا تفصيل الأفكار، جملة جملة وعبارة عبارة، و كل شيء مقنع و متدرج، حتى تنتهي الخانة الأولى.

في السماعي، السرد الحكائي، بعد كل فصل – خانة – من الحكاية، يأتي تأكيد لحقيقة ثابتة، كالحقيقة و النتيجة المُسلّمة في البرهان الرياضي، هي اللازمة. نسرد حكاية في الخانة الأولى، ونقول: لذلك، ها هي الحقيقة، اللازمة. وهي مُفصّلة بنفس النمط من الصمت والحركة والإقناع المتدرج و في تناظر الجمل وتشابهها و تكرارها و طولها وقصرها.

لكننا في الخانة الثانية، نبدأ بتدرج نحو الذروة في سير النهاوند، لكننا نصطدم بضعف و ضياع من الدقيقة 2 و 3 ثواني. ما الذي حدث؟ لكننا نلتقط أنفاسنا من جديد و نواصل في النهاوند إلى الذروة المنشودة و ينسى اليايلي طنبور نفسه محلقاً في 2 و 18 مرتلاً آيات النشوة بـ اهتزاز متواصل، و تتركه المجموعة نازلة لختام الخانة الثانية، ثم يلتقطون اللازمة جميعاً و تأتي الحقيقة مجدداً مقنعة بعد ما رأينا من حدث بعد حدث. اللازمة عادت ولكن بنكهة أخرى عليها أثر من الأحداث في الخانة الثانية و يعزفها الكبار الذين لا يعودون يكررون أنفسهم و يطعمون العزف بجديد من التفسير و البراعات العزفية والتنويع. لننتبه للقانون و الطنبور و العود والإيقاع.

ها نحن في الخانة الثالثة. لكننا بَعُدنا كثيراً عن المكان الذي كنا فيه. يبدو أننا ضعنا. يبدو أننا سنواجه ما حدث قبل قليل بشكل أكثر مرارة و ننتهي بقفلة قاسية وثقيلة ثم تلتقطنا اللازمة، ما ألذها الآن و هي أكثر درامية و عليها دموع اطمئنان باردة.

ها نحن في الخانة الرابعة، ذروة السماعي و في روح النهاوند، مسرعة تلخص ما جرى في إيقاع آخر. هي حكمة مختصرة مما حدث و جرى، تلخص برقي و علو و تجلّ، المعنى من الحكاية كلها – موسيقياًّ، و تذكرنا بالطارئ الذي واجهناه أولاً، ثم بما قاسينا من مرارة في الخانة الثالثة و ضياع، ثم تختتم بطعم الحقيقة. ها هي اللازمة جاءت تصدقها و تقول لنا الحكمة الخالصة مرة بعد مرة مبرهنة عليه بما تقدمه من قناعات بنيت بعضها فوق بعض منذ بداية الحكاية.

اللعبة، تحلو عندما نعيد سماع هذا الأداء والتفسير الرفيع لهذا السماعي، و نعيد سمعه من عازفين آخرين و فرق و نعزفه بأنفسنا.


لعبة السمع تحتاج دربة و اطلاعاً و ممارسة


السمع يأتي بالتربية، والمران والممارسة. هذه المهارة، تتعاظم بالتمرين و بتلوين الذوق وتنويع الخبرة وتعميقها و هكذا نرى الأشياء أكثر وضوحاً و نصاعة و تصبح الأشياء تتقابل و تتشابه و تتناقض و النكهات تصبح يوما بعد يوم سهلة التمييز لنا. الحذق في السمع، يأتي بمعاودة سماع الموسيقى العظيمة، مرة بعد مرة، بتلذذ و حس نقدي. بالتنبه لمواطن الدهشة والجٍدَّة واللذة. سماع الموسيقى ليس تقضية للوقت ولا خلفية لصمت مملٍ مثل ما يحدث في مصعدٍ أو قتلاً لانتظار على خط هاتف. السمع لا يكون لموسيقى خلفية.

هي لعبة بين الموسيقي والعازف و المؤدي فرداً أو مجموعة و من السميع في مخيلة العازف والمؤدي، و و تؤثر عليها الحدود التقنية و التفاعل والتلاقح و نوع المجتمع الموسيقي بكل صنوف المشتغلين فيه وسميعته.

لعبة السمع، تبدأ باللاعب الأول، من يريد أن يسمع، ويعي السمع. تبدأ بالسميع. رأينا، كيف تتعدى العمل الموسيقي إلى القوالب و الشكل والصياغة و السميع، في المخيلة، و نوع العمل و طريقة تقديمه. اللعبة تتعدى ذلك إلى العازف و صيغة العزف من المجموعة  و ما يحدث من تفاعل و تنسيق خبير وليد اللحظة. لعبة السمع تسمو بالخبرات و المعارف الموسيقية و المعهود من مقام و سير و نغمات و إيقاعات  و مواطن الجدة و اللذة. اللعبة تتعدى ذلك إلى خبرة مكتسبة من مجتمع الموسيقيين والعازفين والتسجيلات و السمعية الآخرين الذين نحتك بهم و نشاهدهم و نراقبهم و تغنيها المعرفة العملية و احاطتنا بالتقنية المستخدمة و تطورها و حيثيات كثيرة تتكاثر بمزيد من السمع والتمعن والتداول.
لعبة السمع، كلعبة القراءة، و لعبة الابتكار و العلم و المنهج العلمي وهواية  اللوحات الفنية. لعبة لها بروتوكول وإتيكيت و ثقافة و مجتمع و تمكن من مهارات على مستويات. ليس كل لاعب مثل آخر، وليس لمهارات اللعب حدود. هناك خسارة و ربح و دهاء وحنكة وحكمة وتجربة. كل ذلك يتعلق بما نريد أن "نلعب" و نسمع و نختار و نبحث  ونقرأ و نعي ويصبح فينا طبيعة لا ننتبه لها و تضفي على عقولنا وأنفسنا نضارة باقية.
١ هناك خلط بين اللازمة والتسليم في التسميات. الشائع أن يكون بعد كل خانة تسليم و ربما ربط الخانة خروجاً منها جسر إلى التسليم. و قد اخترت هنا أن أتماشى مع  ما يتبنى الاستاذ مصطفى سعيد من مجموعة من المصادر، كدار الأنغام و ساز و سوز و كتاب الأدوار و جامع الأنغام لمحمد هاشم، فإن ما يسمى عموماً تسليم هو هنا لازمة، والتسليم هو الجسر الذي يأخذنا - ويسلم - من الخانة إلى اللازمة. و سماعي مسعود جميل هذا ليس فيه تسليم في هذه الحالة، إنما تنتقل الخانة بانتهائها إلى اللازمة فوراً.
::. فاضل التركي

تعليقات

المشاركات الشائعة