عقلٌ لا يهدأ و جسد لا يكلُّ ..



في ذكرى الغائب الحاضر .. أسعد الوصيبعي.

  أسعد كذلك .. عقلٌ لا يهدأ و جسد لا يكلُّ ..

 كنت أعرف أنه في غياهب بحر متلاطم من المسؤوليات والمشاغل، أعرف أنه مهما شغله العمل و مسؤولياته، فلن يمر عليه يوم بلا إنجاز شخصي، لن يمر عليه وقت لا يكون فيه عقله قد هدأ و جسده قد ارتاح. ها أنا أتصل به، نسرق من الوقت ساعة من الحديث، تطيرُ دون أن نشعر. لا أسأله عن أحواله و أحوال العائلة ولا عن شئ من هذا. لو كان هناك شئ، فسيخبرني و لو كان عندي شئ، فسأخبره. لا وقت لحشو الحديث.

أما تلك الساعة، فما أدراك ما تلك الساعة؟ ساعة مليئة بنقاش و أسئلة عن انجاز من مشاريع و قراءات و بحث و كتابة و تعلم مهارات جديدة و تحقيق أهداف تم التخطيط لها. لست أتكلم عن النجاحات في العمل و مشاريعه، ذلك نجاح آخر كبير. حديث هو أشبه بورشة عمل و حديث إغاظة و تحفيز و تحدٍّ و تخطيط واتفاق.

أما إذا كان اللقاء، فسيكون الحال أثقل من ذلك و أثرى، و لن يكون حديثًا أشبه بورشة عمل، إنما سيكون ورشة عمل غنية بحق و تجربة لا تنسى. أسعدُ واحد من أولئك القلائل في هذا العالم الذين يطلق عليهم اسم Polymath، ولأقل بالعربية "متعدد المشارب" أو "متنوع الروافد". متعددو المشارب هؤلاء قلائل لأنه في زمن كهذا، لم تعد ظروف نظم التعليم و التربية و الإعلام تشجع على ظهور هذا الصنف وتنميه.

من خرج من هذا الصنف، فأغلب الظن أنه بنى نفسه بنفسه. لدينا مجموعة من الأصدقاء، لحسن الحظ هم كذلك متعددون، قريبون و بعيدون، و هناك في هذا العالم من هذا العيار ممن نكبر و نتابع انجازه. من طبيعة هذا الصنف، أنه أن لا يهدأ ولا يني ولا يكل و لا يتعب. دائم التعلم، لا يكتفي ولا يكفّ، دائم الترقي في مهاراته و معارفه و إمكانياته. 

يعرف ما يستحق و ما لا يستحق و ما يعمل و ما لا يعمل و ما يمرّ مروراً و ما يبقى و يثمر. ليس ذلك وحسب، إنه صنف يلقي بنفسه في المغامرة و المخاطرة و لهوات الجديد فيما يظهر في طريقه أو يفتش عنه أو يكتشفه بالمصادفة.كل ذلك يجري على نظام واضح المعالم و الرؤية عنده يبني به الخبرة على الخبرة و المعرفة على المعرفة و ينتهز الفرصة لتفعيله في كل ممكن على الصعيد الشخصي والقريب و على مستوى العمل و كل منجز بشكل مباشر أو غير مباشر.

في عصر خمل فيه العقل والجسد، بوفرة التسلية على الهواتف والشاشات و و تدلي الأسلاك البيضاء، و تتقافز فيه الرسائل و تكتظ الوسائد الوثيرة و الطعام الوفير، يبدو الخاملون في تعب دائم و تخثر ولا أمل أكثر من التخطيط لراحة أكثر و نوم أطول و السفر للاستجمام و بذل أقل جهد ممكن. لقد سهلت وسائل التواصل الاجتماعي تفاعل هؤلاء بضغطة واحدة للتعبير عن الاعجاب أو المشاركة، و ها هي المشاركات و التفاعل تنبئ بمقدار الاسترخاء و أقصى طموحات المتعة عندهم. في المقابل، ماذا يعمل المتلهفة عقولهم للنشاط و أجسادهم للحركة؟

كنت قبل فترة مع صديق مثل أسعد، رأيته لا يكل عن البحث عن التحديات و لا تملأ عينه ما سطر من إنجازات. ها هو اليوم يعبث في برامج عوصية على الحاسوب ينجز بدقائقها الدرر. و في المساء، كان في محل صانع عود، يجادله في كل التفاصيل ويجرب الأعواد و يرتجل عليها و يجرب. هو يعرف تماماً الأعواد التي مرت في ذلك المحل، لكأنه صانع عود يعمل مع صاحبه. ها هو يبحث عن مشكلة يوقع نفسه فيها و يتحفز لتقديم حل لها و ها هو يبحث عن ملاحظة يجري عليها التجريب و الاختبار و يطرح الأسئلة.

ذلك الآخر، في تحدٍّ جديد في البحث عن الوثائق النادرة في موضوعات زهد فيها الماضون و دمرتها الأيام، ثم ما أكثر دهشة النتائج. ها هو يرمي في بنفسه في تحد لفهم طريقة قديمة لتناول موضوع، و طريقة أخرى يستخدمها الصينيون. في المساء، سيكون يلعب في مباراة رياضية.

 ذلك الآخر، يجلب كتباً لم تعد تطبع، بمبالغ مبالغ فيها و يجهد عينيه و عقله و أسفاره في سبيل تحصيلها و تأتي بعدها لذة حلاوة الأفكار و الآراء و نقاشها و و رسم صورة و نموذج جديد للأشياء و إكمال شئ في صورة سبق في تشييدها. في حين آخر، يكتب الشعر و يسمتع به و يجيد إلقاءه و يتلذذ بجمال اللغة و ألاعيبها.

تلك الأخرى، تؤسس لفكرة، وتجعلها شائكة بالأسئلة و تلقي عليها هديراً من الأٍسئلة والتجريب و تؤسس ملاحظات و نتائج يولدها التفكير النقدي والمنهج العلمي. في حين آخر، تشتغل في عمل إحصائي بأسئلة جديدة، و في نهاية الأسبوع، تخيط و تنسج بيدها.

تلك الأخرى، تسعى لتحضير معدات و أدوات مدعمة بخبرة عالية في الفن الممارس و بتجربة الخبير العميق لا المشغول بزيف الموضة و استسهال الإبداع مهووسة بتاريخ و خبرة في عالم الفنون الجميلة، لتخرج بلوحات و أعمال جديدة.

ذلك يبعث بآلة جديدة، وذلك يطعم شيئاً بشئ، و ذلك يشتغل على مقالة و محاضرة. كل أولئك في شغل للعقول والأبدان متعدد و لن يمر على أحدهم أسبوع ليس لديه منجز. أما إذا سألته عن إنجاز الشهر الفائت، فعليك أن تحدد أي فترة وأي شغل يهمك.

هؤلاء لا يشغلهم شئ و لا شيئين ولا ثلاثة .. فضلاً عن المسؤوليات و المهام التي لن تسقط سهواً.

أسعد كان كذلك، و كان كذلك أصدقاؤه، و لا تعرفون مقدار السعادة التي تأخذ مثل هؤلاء و كل منهم دافينشي و الحسن بن الهيثم و الفارابي و دايكسترا و هوفستادتر.

هناك مشاريع قامت على أكتاف أسعد و أخرى رفعها، و أفكار و إنجازات و أحلام كان يجب أن تكتمل. هناك أثر هنا و أثر هناك، زهرة و نبتة و بناء و إلهام خطّهُ و أنشأه و أكمله. لكن غيابه لم يكن سهلاً ولن يكون. أسعدُ، وسط كل هذا؛ وسط كل هؤلاء الأحبة، مكانه شاغر و مهيب.

تحية لك أيها الكبير ..

::. فاضل التركي

تعليقات

المشاركات الشائعة