لا خير في معرفة بلا خبرة




إلى الغالي بين جنبيَّ، أسعد الوصيبعي في ذكرى رحيله.


لو اخترنا معاً، تعريفاً من مادة الإحصاء و افترضنا عدم معرفة القارئ بالموضوع . لنقرأ و نتحمل قليلاً هذه التجربة البسيطة:

تعريف: الجمهرة هي مجموعة شاملة من العناصر التي تتشارك على الأقل في خاصية واحدة و تكون هذه الخاصية موضوعاً للتحليل الإحصائي.⭐

ما هي المشاعر المختلطة التي تنتاب الدارس الجديد و هو يمر بمثل هذا الموضوع؟
  • الشعور بالمعرفة والثقة بفهمه بتوارد افتراضات في ذهنه؟
  • الشعور بالضياع و الحاجة لتأكيد التكهنات و الحاجة لمثال؟
  • الشعور بقراءة كلام غير مفهوم بتاتاً و اللجوء للمساعدة؟
  • الشعور بعدم الحاجة للتعريف والقفز لحل المسائل؟
  • الشعور بأن المادة لا فائدة منها؟
  • الشعور بالإستغناء التام عن موضوعات كهذه؟
  • الشعور بالقصور عن فهم مثل هذه الموضوعات؟
  • شعور آخر؟

هي حال أكثر تعقيداً من شرحها بمثال كهذا. ماذا لو شملنا مادة الإحصاء و التخصص الجامعي ككل، و اخترنا أن نتخيل الطالب أو التلميذ يدرس هذه المادة بين كثير من المواد الأخرى، و تنتظره امتحانات - امتحانات تطلب تخزين معارف و مهارات مؤقتة تخبوا بعد الامتحانات - و متطلبات و مشاغل الحياة كلها؟ طالب الثانوية لا يفرق في ذلك عن طالب الجامعة و طالب الدكتوراة و من يدرس بنفسه  بأسلوب الأكاديميا؛ "الأكاديميا" التي أصبحت مثالاً للرقي و ضرب المثل في الدقة و التخصص و عمق الخبرة والشمولية و الصرامة.

ليس العيب في أن ندرس و نتعلم ونعرف. ليس العيب في محاولة تجديد و تعميم التعليم أو توفير المعرفة. العيب في كيفية عمل ذلك.
نذكر محاضرة كن روبنسن عن كيف تقتل المدارس الإبداع، ونذكر مقالة أورتيغا عن وحشية التخصص. أذكرهما هنا لنكون في إطار شامل ضروري للحديث عما أود الإشارة إليه.

هذه المشكلة لم تكن موجودة قبل عصر التعليم - التعليب - الذي أصبح أجبارياً و منظماً كما نعرفه اليوم منذ دخل عصر الثورة الصناعية.

الخباز يتعلم من خباز ربما كان والدَه، أو ربما كان من عائلة خبازين، يعرف بيده مسميات الأشياء و مكاييلها و توقيت العمل و التعامل مع كل مكونات الخبز و إنتاجه حتى نصل إلى النتائج و من ثم تحسينها في دروة لا تنتهي شاملاً بذلك التعامل مع الناس و كل مشكلات توفر المؤونة و ظروفها و المواعيد و المواسم و حال السوق و حال الخبازين الذين يعرفهم و من له علاقة بعمله.

النجار كذلك، و من يخُطّ و من يجلد الكتب و من يقرأ و من يحسِبُ و يخيط و من يبحر و يغوص و يزرع و يصنع، و من يعزف  و يغني و يمثل و يرسم و يعمل سمساراً و وسيطاً.

هؤلاء، تتكون خبراتهم و تأتي لهم المعرفة مؤسسة على الشك و التجربة و الخطأ و الملاحظة والاعتبار و التحسين والتطوير، حتى لكأنها أصبحت عندهم طبيعة فيهم، كما هي طبيعة الكلام، و طبيعة وجود اليد في أجسادنا و طبيعية المشي و الضحك و الخوف، فضلاً عن أثرها على أجسادهم و حركتهم و خبراتهم في الحياة و قراراتم و اختياراتهم.

كيف لهذا المسكين أن يسعفه الخيال؟ و لو أسعفه، كيف له أن يختبر كل هذا الكم الهائل من المعارف بحيث يعرفها كمعرفة أولئك أو أفضل منهم  و يستفيد منها و يطورها؟ ثم هناك معارف لا يمكن أن تكتب  وتختصر وتصاغ لها الأمثلة و المسائل و الصور التسجيلات والفيديوهات و حتى المشاريع الصغيرة و الطلبات التي لو كان بعضها عميلاً على أرض الواقع، فسيكون في خبرة صغيرة و لن يكون شاملاً لكل الموضوع المدروس و لا يضمن أن يكون شاملاً لتلك الفكرة.

لا أؤمن بأن هناك أشياء طبيعتها نظرية، و نستغني بها عن ما أصِفُ من معضلات. إذا كان الأمر كذلك، فهو في نظري يبدو سليمًا في الظاهر و حين يأتي دور اختبار لتلك المعارف، فسيظهر فهم من تعلم بتلك الطريقة و من تعلم بطريقة بديلة أنجع. ثم ما هي النظريات؟ أليست خبرة مركزة أسسها العلماء على المنهج العلمي؟ أليست تأتّت لهم من خبرة و تم التحقق من صحتها بالتجربة و الخبرة والمعايشة والشك والسؤال و تحدّيها؟ كيف تتحول هذه المعارف التي تكونت عبر خبرة عند العلماء، معارف جاهزة بلاخبرة عند المتعلم؟

لِمَ نرى، يوماً بعد يوم، تسجيلات فيديو  و برامج و قصصاً و رسائل نصية و وسائل تعليمية غريبة منوّعة، تحاول إعادة شرح الأشياء بشكل ملموس و ممثل و ممتع و باقٍ بشكل حي مقارنة بأفضل وسائل التدريس في الكتب والمدارس؟ لماذا هناك ورش عمل محبوبة و منظمة، قصيرة المدى و نتائجها مدهشة وتفتح أبواباً على نتائج أعظم على المدى البعيد؟ لِمَ هي طعمها ألذ على العقل، و تروي المعارف المؤسسة جيداً و ترفع الثقة بها؟ أليست لأنها تبدأ من خبراتنا أو تطلب منا أن نبني خبرة على خبرة و نتعلم ونعرف و نتقن و نبدع؟

هذه مشكلة ليست عند العرب، بل تشمل الشرق والغرب. هناك من الدول و الحكومات و المدارس من وعى لمثل هذه المشكلات و بدأ يُبدّل الطريقة المعتادة للتعليم؛ من التعليب عموماً إلى جعل التدريس بالموضوع الأشمل أو باختيار مشروع واحد يعملنا أكبر ما نستطيع أن نتعلم منه كالتعليم في فنلندا و السويد واليابان و هاهم، طلابهم يفوزون بالجوائز العالمية.

لماذا نجد المطربين و العازفين بالأمس أفضل من خريجي المعاهد الحديثة و التدريس المنسوخ من الأمم الأخرى؟ لماذا الكتّابُ و المخترعون والمبتكرون المدهشون يدهم ملوثة و ذهنهم ملوث بالملموس؟

ما أريده من كل هذا، هو أن ننتبه إلى أن الطريقة التي نصفها بالأكاديمية، ليست كما هي في الصورة العامة المشتركة التي توصف بالرقي والصرامة. 

و حتى قراءة الكتب للترويح و من باب عشق الكتب، لن تكون بالمتعة و الثقة و الرسوخ و دوام حضور المعارف مثل ما نفعل و نحن نقرأ بعد أن خبرنا فعرفنا و شعرنا وأحسسنا و أصبحنا أشخاصًا أكثر خبرة منا قبل ذلك .. فكروا في الأمر..

و تلك الكتب و المواقع و الفيديوهات التي تعلّمك كيف تعمل شيئأ أو تصلح مشكلة، لا تُعلّم المرء شيئًا و لا تُكسِبهُ خبرة و لا معرفة. ما يعرفه هو كيف يبحث عن حل أو كيف ينفذ الخطوات بلا أدنى وعي و لا تفسير لماذا رتبت كذلك .. أو ما هو الضروري منها و كيف انتهينا إلى ما انتهينا إليه.المعرفة تبنى من الأسفل إلى الأعلى .. و كذلك الخبرة .. و هي غير محصورة بعدد من الفصول ولا بالأمثلة ولا بأي شئ مقنع وغير مقنع..

المؤسف أن هذه المشاعر تذبل مع مرور الوقت و تتلاشى و يدعم تلاشيها شيوعها عند الدارسين.

الطريقة التي يتعلم بها المرء، تأتي تلقائياً بعد أن تتكون عنده خبرة بمسميات الأشياء و بكيفية عملها و يكون قد اكتسب خبرة عملية من مخالطة خبير و تتلمذ عليه.

مشكلة التعليم العام، و التعليم العالي على منواله، هو محاولة دسّ و ترتيب المعرفة والخبرات التي كانت قبلاً، شغل آخرين، مصنفة في مجالات مفصولة، صيغت كمعارف هي خبرات آخرين سبقوا، لكن الطالب لم يعشها.

كثير من المتعلمين الأكاديميين، يدهم مشغولة في وقت الفراغ في موضوعات من نفس تخصصهم أو  في غيره من هوايات و لكنهم يتعلمونها بالطريقة غير المدرسية و ليس عن طريق الكتب و الطرق "الحديثة" المعتادة. و هم حين يتكلمون نجدهم أكثر متعة و ثقة و خبرة و شغفاً بها من تلك المعرفة و الخبرة المؤسسة بالطريقة الحديثة.

الأكاديميات السبّاقة و المستقبلية و المؤسسات و الشركات مثلها، تبدأ ببناء الخبرة و بمشاريع تتلوها معرفة راسخة تكتسب بالتجربة و بعرق الجبين، كان ذلك بنشاط ملموس أو ببحث "ملموس" نمارسه بكامل الوعي و أسئلة لا ترحم.


المعرفة المعتمدة تؤسس على المنهج العملي ..و تؤسس معارف العلوم والفنون بالخبرات و التجارب والشك و الأختبار.
لنتعلم من أولئك الذين يتعلمون بأنفسهم، من  الناجحين، الذين يبرهوننا بخبراتهم و معارفهم و نتاجهم ..ها نحن هدأنا من ضوضاء أعمتنا بالصرامة والدقة والشمولية، و ها هي صفحات الأنترنت و البرامج و الهواتف تضج بكل نوع من بدائل تفتح لنا آفاقاً واسعة من خبرات نكتسبها كأفراد و مجموعات بالخبرة أولاً تليها المعرفة .. و تبنى بالخبرة على الخبرة و المعرفة على المعرفة .. و ترينا النتائج ..


الذين لم يجربوا ذلك، جربوا، إنها حياة أخرى.

::. فاضل التركي

⭐ الحقيقة أنني اخترت هذا التعريف هكذا عشوائياً، و اخترته من الويكيبيديا و عربته بنفسي، و كنت أستطيع أن أستعيض عنه بأي تعريف أو مسألة من مادة الموسيقى أو الفيزياء أو الطب أو الهندسة الميكانيكية أو درس لغويات.


تعليقات

المشاركات الشائعة