حياة الكتابة العلمية عند العالم توني هور




"هذا نص عنونه د. هور بعنوان الختمة، في نهاية كتاب له يجمع عددا من كتاباته الهامة. إن هذا النص تحفة فنية رائعة عن حياة من الكتابة المنتجة؛ حياة من الكتابة العلمية منذ لحظة تولد الفكرة حتى تتبلور وتنمو وتموت وتحيى و تخلق على أرض الواقع. نص أقدمه لكل محبي الكتابة والعلم ولكل المحتفين بيوم الكتابة في دروب  2008"





أستمتع بالكتابة. تأتيني الأفكار في أوقات عشوائية وأيام عشوائية، مثيرة و كثيرة الآمال ولكنها غامضة و سطحية. ثم أتطلع إلى فرصة سانحة أجلس بعض ساعات بدون مقاطعة أمام كومة من ورق أبيض نظيف ومجموعة من أقلام الرصاص الناعم ومبراة وممحاة ومشبك ورق كبير وسلة ضرورية للأوراق المهملة. وعندما تكتب الفكرة على الورق فإنها تتبلور تدريجيًا من الغموض الذي يحيط بها وتكتسب بعض المادة
تخضع الفكرة لمجموعة من الاختبارات وذلك من خلال تقنينها وشرحها ومن خلال البرهنة عليها و تطبيقها على الأمثلة البسيطة. ولكنه خلال هذه المرحلة، تظهر أفكار جديدة كليًا مع طرائق جديدة وتعريفات وبديهيات وأمثلة كلها تتطلب الاستكشاف. أو تدريجيًا، تمتلئ سلة المهملات ويتسخ سطح المكتب بمخلفات الممحاة وتبقى قليلٌ من الصفحات المخربشة تجمع في مشبك الورق لتوضع جانبا لتطويرها في المستقبل. وإن لم يكن ذلك فإن الفكرة تنقلب غير عملية أو معقدة للغاية أو مجرد سخافة وفي نهاية الجلسة لا يُكتبُ البقاء لشئ.


من حسن الحظ أن الأفكار تبدو أفضل من ذي قبل بعد أن تكون قد كُتبت ودُوّنت. وتبقى الفكرة تخفق في رأسي حتى يحين الوقت لأجلس وأعمل عليها. آخذ الأوراق ذات المشبك من درجها ويستمر العمل من حيث توقف آخر مرة. وربما أكون حينها فكرت في طريقة عرض أخرى وأمثلة جديدة أو ربما أفكار جديدة و ربما احتاج إلى بداية جديدة. وربما كان الأمر أسوأ من ذلك حينما أقرأ ثانية المسودة فأنتهي وأنا غير متحمس أو غير مقتنع أو مستعد لقبولها كأساس يمكن أن أبني عليه أي تطوير. وفي نهاية الجلسة، أجد ورقًا أقلّ مما كان في البداية وهذا في حد ذاته تطوّر.


بعد عدد من الجلسات المتفرقة على عدد من الشهور، تصبح الفكرة الأصل أو ما تولد منها قابلة للبقاء. معايير النجاح صارمة: التعريفات يجب أن تكون واضحة والبديهيات قائمة بأدلتها الذاتية والنظريات مبرهنة والتنفيذ فعّال. الأمثلة يجب أن تكون بسيطة وتشبه مشكلات أكبر تظهر عند التطبيق في الواقع. وفوق هذا، فإن النص يجب أن يكون واضحًا موجزًا ومقنعًا. وإذا اتضح أن هذه الشروط قابلة للتحقق، فإنه حان الوقت لكتابة خاتمة. وهذا هو أصعب جزء؛ حيث يجب تلخيص المادة التقنية ويجب الاعتراف بالنواقص والعيوب وتقديم ادعاءات معتدلة عن النجاح ويجب مناقشة طرق بديلة ويجب الإشادة بالباحثين السابقين والإشارة إلى التوجهات المستقبلية للبحث. وفي الخاتمة، يجب أن يكون انسياب الفكرة أكثر إقناعًا ليترك انطباعًا يمسك بعقل القارئ. وعادة ما يكون ضروريًا إعادة كتابة قسم مكتوب مسبقًا لتغطية نقطة ظهرت علاقتها بوضوح عند كتابة الخاتمة. وأخيرًا، فإن مشبك الورق يحتوي على الأوراق المخربشة من المقالة كلها مليئة بالإضافات غير الأنيقة والمشطوبات والإعادات والممسوحات والمتناقضات التي ظهرت بسبب تباعد المدة التي تفصل الجلسات عن بعضها.


أستمتع بالكتابة. في الفرصة التالية، أجلسُ إلى كومة من الورق الجديد وأبدأ في إعادة كتابة كل شئ من جديد دون أي ترميز أو اختصار. والمهمة الآن هو تمييز الأقسام وربط الرسالة في كل قسم منها إلى الرسالة ككل، وكذلك اختيار أفضل موضع لكل فقرة حسب مقدار ما تساهم به تلك الفقرة في ذلك القسم وكذلك وزن دور كل جملة بعناية في الفقرة اختيار كل كلمة في الجملة. وتأخذ إعادة كتابة المقالة عدة جلسات وخلالها تستكشف أفكار جديدة في طور البحث عن شروحات أسهل وأمثلة أبسط وتشبيهات سهلة المنال. المقالة المعاد كتابتها والتي من المفترض أن تكون آنق وأرتب، تنتهي تقريبًا بنفس العدد من الإضافات والمشطوبات والتصحيحات مثل ما كان في السابق.


في الجلسات التي تلي ذلك من إعادة الكتابة، تُعاد نفس الحكاية. تبدأ العملية في التقلص وتبدأ صفحات كاملة في التسلل إلى المسودة الجديدة دون تغيير. وفي نهاية المطاف، يمكن أن تُعاد قراءة المقالة كاملة في جلسة واحدة مع بعض الرضا المعقول وبدون تغييرات كبيرة. وفي هذه المرحلة فقط، يصبح من الممكن دفع المقالة للرقن –الطباعة على الآلة الكاتبة أو التنضيد – وهذا يمنع أي عمل جديد على هذه المقالة لعدد من الأسابيع. ومن المدهش أنه كثيرًا ما يكون المقال المرقون بشكل أنيق أو الراحة الإجبارية هذه من رؤية المقالة، من المدهش أنه كثيرًا ما يكشف ذلك أخطاء تقنية فادحة كانت في السابقة تغطيها الفوضى أو الاعتياد على المسودة. ولذلك، فإن النص المرقون عادة ما يُعاد إلى الراقن مع بعض التغييرات والتعديلات المهمة.


وفي هذه المرحلة، توفر البرامج العصرية المعالجة للنصوص مساعدة كبيرة ولكن مع خطر يضارع هذه المساعدة الكبيرة، يكمن داخل هذه البرامج. برامج معالجة النصوص هذه تجعل الكاتب يميل إلى عمل تغييرات ضئيلة أقل ما يمكن ويجعل هذه التغييرات إضافات بدلاً من المشطوبات، بينما، ما نحتاج إليه هو إعادة التفكير وإعادة التسويد وإعادة الرقن لفقرات كاملة وربما أقسام كاملة أحيانًا. أتمنى أن أواصل مقاومتي لمثل هذه الميول.


وأخيرًا، يكون النص قد اكتمل. أنا فخور به وأود حينها أن أُطلِع عليه الأصدقاء والزملاء وأدعوهم إلى التعليق. وبهذه الطريقة، أكسب مقترحات أرحب بها من أجل التحسين في المقالة وتكون المقترحات غير المرحب بها عادة، أكثر فائدة و قيمة. وتنتظر المقالة في الدرج السفلي في المشبك مع الردود التي تتزايد مع مرور الوقت. وبعد ستة أشهر، تتواصل هذه المهمة مع أفكار جديدة وحماس جديد. ويمكن أن تكتشف طريقة جديدة لمعالجة المشكلات التي تركت بدون حل. وأحيانًا أكون مرعوبًا من التعقيدات التي كتبتها. ولا أستطيع أن أقنع نفسي بقراءة ذلك من جديد وأشعر بالخجل والأسف أن قمت بتوزيع هذه المقالة بهذه الدرجة من الاتساع. ولقد ساعدني هذا كثيرًا وأنقذني من عدم نشر ورقة ربما ندمت عليها فيما بعد. وهذه العملية نفسها يقوم بها المُحكِّمون عندما تُقدَّم المقالة في النهاية للنشر. وعندما تظهر في الطباعة يكون الشعور بالراحة أكثر من الابتهاج؛ لقد ارتحت من عناء المزيد من إعادة التقييم والمراجعة.


كثيرًا ما تتطور الأفكار بسبب تحضير وإلقاء المحاضرات على جمهور ضئيل متعاطف غير واع وربما متشكك. وتظهر لي وقت الإلقاء أفكار جديدة ورؤى وأمثلة جديدة وشروحات جديدة وأشكال من العبارات وتظهر لي بعض الجدليات القديمة واهية وغير مقنعة. وفي الإلقاء الذي يليه، يتم تجنب الأخطاء وتعزز التحسينات. وفي أكمل حال، تكون هذه المحاضرات مناسبة لتنوع واسع من الجمهور كحلقة دراسية مثلا –سيمينار– أمام مجموعة من طلاب الجامعة والمدرسين أو كلمة لمؤتمر من المختصين أو حديث مسائي لشريحة محلية من المحترفين. وربما تطلب مساهمة مكتوبة للنشر في مجلة أو محاضر جلسات ويكون من الواجب تسليم المسودة القائمة.


وهكذا يتم نشر نفس المادة مرة أخرى في أشكال مختلفة وربما كانت تحت عناوين مختلفة. وربما كان نفس العنوان استخدم لوصف مادتين مختلفتين تمامًا. ونتيجة لهذا، فإن قائمة منشوراتي تعمها الفوضى ويجب أن أهتم بها أكثر في المستقبل.


بعض المقالات تتطلب جلسات أقل من غيرها. فعلى سبيل المثال، كانت لي مقالة سلمت منها المسودة الأولى ونشرت المسودة الثانية بعد أن طلب المُحكِّم أن أضيف إليها قسمًا جديدًا. وفي ذات الوقت، سلمت المسودة السابعة من مقالة أخرى وتم رفضها مباشرة وكانت المسودة الثامنة هي ما اختيرت للطباعة.


وخلال عملية تطور الأفكار من الحماس الغامض إلى النشر النهائي، فإن أهم متطلب هو أن تكون الأفكار مشروحة بوضوح وبشكل مقنع. وربما يؤدي هذا إلى التبسيط الزائد أحيانًا وذلك عندما نلغي برهانًا كما حدث في إحدى مقالاتي. وفي كل الحالات، يكون الخطر الأكبر أن أخدع نفسي وأخدع القارئ. وهناك من هم موهوبون بمهارة الكلمات ويمكنهم أن يقدموا جدليات باهرة بدلاً من المواقف التي ظهرت أو ستظهر بلا تحصين. وأجد أنه من السهل نسبيًا أن أحكي قصة متماسكة ومترابطة في مقالة مثلًا تصف خاصية من خواص لغة برمجة محددة ومن الصعب الامساك بمستوى واحد من الدقة والتماسك والترابط على صعيد عدة مئات من الصفحات أو تصميم لغة برمجة كاملة.


ولكن الاختبار النهائي لفكرة ما والاختبار الذي يستحق الثقة الكبرى هو، عندما تُطبّق بنجاح في مشروع ذي أهمية ويكون لدينا منتج مفيد ومتوقع على مدى زمني محدد وميزانية محددة. وأي نتيجة سيئة ستكون مصيرية لفريق المشروع ولزبائنهم وعملائهم. وهذه الاختبارات الهامة جدًا أتركها دوما للقراء. وأشكر لهم الشجاعة وقبول التحدي ليكونوا أول من يجرب هذه الأفكار الجديدة وأحترم في نفس الوقت الحذر الذي يتحلى به أولئك الذين يفضلون التمسك بالأفكار التي يعرفونها ويفهمونها ويثقون بها.


وإذا كان أي من أفكاري ذا قيمة باقية، فإن السبب الوحيد أن هذه الأفكار استفادت من مساعدة الكثير من العلماء والزملاء في بداية تكونها وتطورها فيما بعد. أقدم هذا التصريح لمنهجي في البحث، كوسيلة لأقول شكرًا لكل من ساندني لسنوات عديدة ودعموا عملي وشكرًا لكل سكرتير وراقن و طالب والمساعدين البحثيين والزملاء والمراسلين والمحكمين ولزوجتي وعائلتي الذين احترموا لسنوات حاجتي لهدوء غير مقطوع. لهم أدين بجميل وعرفان لا أقدر على رده لهم.


لقد استمتعت كثيرًا بكتابة كل واحد من أعمالي وأتمنى أن تكونوا استمتعتم بنفس الدرجة بقراءتها.





الدكتور توني هور، عالم حاسوب شهير من أشهر أنجازاته خوارزم الترتيب السريع و منطق هور المستخدم في التأكد من صحة البرمجة وهو من تلاميذ دايكسترا الشهير. Quick Sort


::. ترجمه: فاضل التركي

تعليقات

المشاركات الشائعة