وحشية التخصص




هذه مادة معربة أهديها باسم العزيز أسعد الوصيبعي إلى كل عالِمٍ أو متخصصٍ أومثقفٍ واعٍ يحمل مسؤولية ذاتية أو اجتماعية أو حضارية على عاتقه. هي مادة اخترتها من بين مختارات الرائع مارتن غاردنر، وهي مقالةً للفيلسوف الإسباني خوسية أورتيغا. المقالة تنقل مادة مختلفة وغاية في الأهمية وحادة صارمة في رسالتها. وهي على ذلك مادة ترينا بعض الفلسفة الجادة في  موضوع يمسنا كلنا في هذا العصر لو قورنت بكثير من الفلسفة البائدة و الفلسفة المضيعة للوقت والجهد و مُذهبة للعقل. سأنقل المادة معربة تحمل الصورة المرجوة لكم كما صورها مارتن غاردنر في تقديمه لها ومن ثم ترجمة نص أورتيغا. وقتاً ممتعاً وتأملاً عميقاً. ولنبدأ يوماً جديداً مع تصور جديد للأشياء. لنكن أفضل مما نحن ولنسر قدماً بوعي و عمل من غد أفضل.

النص معرباً

مارتن غاردنر


تقدمة مارتن غاردنر:

يبدو “ثورة الجماهير"، عنوان أفضل كتاب معروف لخوسيه أوتيغا، مقترحاً على الطبقة العاملة  أن يأخذوا عظة ماركسية لأن ينفضوا عنهم قيودهم. لكن الكتاب ليس كذلك. الكتاب يسوق لائحة اتهام مريرة للقوة الضاربة للفرد العادي – النمطي - في مجتمع القرن العشرين الصناعي. إن الديموقراطية الحقيقية، كما يراها أورتيغا، تزدهر حين يميل المواطنون مختلفوا التوجهات إلى تسليم مسؤوليات الحكومة إلى أقلية متفوِّقة. لكننا اليوم نجد أن الديموقراطية في كل مكان، تنحدر إلى ما يسميه "الديموقراطية المفرطة" التي يُصرُّ فيها الفرد العادي "المتوسط" على الإمساك بعنان الأمور. وإذا كان هذا الفرد المُنتَج بالجملة، غنياً كان أم فقيراً، يكرهُ كل من يختلف عنه، فإنه يحاول إلصاق تهمة "العادية" و "السوقية" بكل فرد آخر. إنه قد يفعل بذلك في هدوء تام عن طريق مجموعات ضغط متنوعة، أو بعنف أو بطريقة ثورة فاشية أو اشتراكية. على كل حال، فإن النتيجة هي ذاتها نفس النتيجة: مجتمع متجانس من الفارغين المتطابقين من الطبعة الوسطى الذين يُملي عليهم آخرون.

الجماهير - بالجملة

 بالطبع إن هذا النقد للحضارة الغربية ليس بجديد. إن بعض افتراضاته المسبقة يعود إلى أفلاطون وفي الوقت القريب، فإن كثيراً من الكتاب الأمريكان ومن ضمنهم هـ. ل. منتشن و ولتر ليبرمان الذين عزفوا تنويعات من هذه الغنوة. لكن الموضوع في كتاب أورتيغا الذي نشره عام 1930م، عمل ضجيجاً و وأصبح يعطي لكزات جعلت منه كتاباً يجلب التوتر.

 حينما مات خوسيه أورتيغا غاسيت (1883-1955)، كان قد أصبح أهم فيلسوف أسباني معروف وأديباً عظيماً. و عندما اندلعت الحرب الأهلية في 1936، وكان حينها بروفسوراً في جامعة مدريد، و أحد أهم حصون الثقافة في الحكومة الجمهورية. و حينما اندلعت الحرب، ترك  أسبانيا إلى منفىً طوعي ولم يعد حتى عام 1945م.  أما في عقده الأخير من العمر، فكان كما يصف نفسه بأسىً، نوعاً من "اللا وجود."، حينها، كتب القليل ولم يلعب أي دور في شئ. كان يتبنى "الحيوية*" و يتبنى وجهات نظر كتلك عند هنري برغسون و وليام جيمس.

الفصل التالي، من كتابه ثورة الجاهير، تتميز بكونها أهم نص قائم بذاته كتب ضد العالِم المعاصر.  لقد رآه أورتيغا "متعلماً للإهمال"، مغروراً في تصوره الواهم من أنه بسبب كونه يعرف شيئاً صغيراً معرفة جيدة، فإنه إذن كفؤٌ لأن يتكلم في كل شئ. إنه هجوم أشد بكثير من السخرية المتجنّية التي كتبها تشارلز فورت، أو تلك الكتب الحديثة التي تعارض "العلمية" بكتابات إنسانية. يمكن للعالم العامل أن يطالع كتابات فورت  فتعتريه الدهشة و في الكتب الجديدة ببعض الانزعاج. لكن قليلاً من العلماء سيستطيعون قراءة هذه المادة المختارة دون أن يعتريهم ضيق شديد و شكّ عميق أن كثيراً يقوله أورتيغا حقيقي.

*الحيوية: هي ما يصطلح عليه بالانجليزية vitalism  وهو نظام لقي دعماً في الماضي ولم يعد ذي قيمة في العلم الحديث. فكرته أن الكائنات الحية لديها شئ يجعلها تفترق عن الكائنات غير الحية هو مدعاة وصفنا لها بالحياة. يمكن مراجعة الموسوعة الحرة للتفاصيل أكثر.

وحشية* "التخصص" - خوسيه أورتيغا


خوسيه أورتيغا

إن إطروحتي كانت تقول أن حضارة القرن التاسع عشر، جلبت لنا معها الفرد الذي انتج بالجملة  (العادي – النمطي – المُنتَج بالجملة). من الجيد أن لا ننتهي من هذا الاستعراض دونما تحليل، وبالتحديد، تلك الطريقة من انتاجه. عندما نأخذها بالشكل الملموس، فإن الأطروحة ستكسب قوة أكثر في الإقناع.

حضارة القرن التاسع عشر، كما قلت، يمكن أن تختزل إلى جانبين: الديموقراطية الحرة (الليبرالية)، و الاتكالية على التقنية. لنأخذ الأخيرة أولاً للحظةً. إن (الاتكالية على التقنية) الحديثة تنبع من اتحاد بين الرأسمالية و العلم التجريبي. ليست كل اتكالية على التقنية هي عِلمية. إن الاتكالية على التقينة التي جاءت لنا بالفأس الحجري في الفترة الآشولينية – فترة ما قبل التاريخ صناعية - كانت تفتقر إلى العلم ولكنها تقنية تم انجازها. و كانت توصلت الصين إلى درجة متقدمة من التقنية دون أن تلتف إلى وجود الفيزياء. لم تكن إلا التقنية الأوروبية الحديثة قد بُنيت على قاعدةٍ علميةٍ  هي التي ميّزت بها شخصيتها وهي إمكانية التقدم الذي لا حدود له. كل التقنيات الأخرى من ميسوبوتاميا - ما بين النهرين - و مصرية و إغريقية ورومانية و شرقية يصلون إلى نقطة من التطور لا يمكن تجاوزها ولا يمكنهم العودة للوصول إليها  بمجرد ما يبدأون في التراجع والتقهقر.

إن التقنية الأوروبية المدهشة مكّنت الجنس الأوروبي من الإنتشار. لنتذكر  السبب من وراء كتابة هذا النص، وكما قلت، والذي يحوي في الأساس كل هذه الاعتبارات الحالية. منذ القرن السادس عشر حتى 1800م، لم تستطع أوروبا أن تصل في عدد السكان إلى 180 مليون نسمة. أما منذ 1800 إلى 1914م، فقد وصلت لـ 460 مليوناً. إن هذه الفقزة لا مثيل لها في تاريخنا. إنه لا شك أنه الاتكالية على التقنية -  بالاشتراك مع الديموقراطية الحرة – ما ولّد لنا هذا الفرد المنتج بالجملة بهذا المعنى الكمّي للتعبير. ولكن هي مهمة هذه الصفحاتِ مُحاولةُ البرهنة على أنها الأسباب ذاتها المسؤولة عن وجود هذه الانتاج بالجملة من الأفراد بالمعنى النوعي والإسقاطي للتعبير.

"الجملة" – كما أشرت في البداية – ليس المقصود بها العمّال ولا تشير إلى طبقة اجتماعية ولكنها نوع من الأفراد موجود اليوم في كل الطبقات الاجتماعية وهو بالنتيجة يمثل عصرنا، وهو القوة الحاكمة السائدة. إننا الآن على وشك أن نرى كثيراً من الأدلة على ذلك.
من هو ذاك الذي يملك القوة الإجتماعية اليوم؟ من الذي يَفرُضُ أفكارَه على المرحلة؟ بلا شك، هو فرد الطبقة الوسطى. أي مجموعة من الطبقة الوسطى تعتبر المسيطرة - أرستقراطية الحاضر؟ بلا شك هي مجموعة التقنيين والمهندسين والدكاترة والماليين والمدرسين وهكذا. من في مجموعة التقنيين يمثل الأفضل و الأصفى؟ مجدداً وبلا شك، العلماءُ. إذا زارت شخص مُهمٌّ اليومَ أوروبا من أجل أن تكوين حكمٍ عليها و طلب من أوروبا أن تحدد نوع الأفراد الذين تفضل أن يَحكُمَ  عليها من خلالهم كنماذج، فلا شك أن أن أوروبا ستكون واثقة و بكل سرور ستفضل أن تشير إلى أفراد شعبها من العلماء. وبالطبع، فإن هذا الشخص لن يبحث عن الأفراد الخارجين عن المألوف، ولكن سيبحث عن النوع العام وهو "النوع المختص بالعلم"، أعلى قمة في إنسانية أوروبا.

وحالياً، يبدو أن العلماء الحقيقيين هم نموذج للأفراد الجملة. ليس طريق الصدفة ولا فشل أفراد محددين في العلم ولكنه العلم نفسه – سبب تحضرنا – هو ما يجعل الناس أفراد جملة، الفرد فيها بدائي  و وحش حديث! هذه الحقيقة معروفة وقد أصبحت واضحة مرة بعد مرة ولكن عندما توضع في مكانها في مضمون هذه الأطروحة فإنها ستظهر بكامل معانيها و خطورتها بالدلائل.

لقد تأسس العلم التجريبي قريباً من نهاية القرن السادس عشر (غاليليو)، وهو بالتأكيد تشكّل في ختام القرن السابع عشر (نيوتن)؛ وهو بدأ في التطور في منتصف القرن الثامن عشر. إن تطور شئ ليس كتشكُّلهِ؛ إنه  حينها معرض لاعتبارات أخرى. و عندها، فإن تشكُّلَ الفيزياء - وهو الاسم الجامع للعلوم التجريبية - هذا التشكل شجع الجهود من أجل عمل وُحدة. هذا العمل كان جهد نيوتن وآخرين في عصره. لكن تطور الفيزياء جاء بمهمة معاكسة في طبيعتها لعملية التوحيد. ومن أجل التقدم والتطور، كان العلم يتطلب التخصص، ليس العلم في ذاته، ولكن تخصص المشتغلين بالعلم. العلم ليس مختصّاً ولو كان كذلك فبطبيعة حاله لن يكون حقيقياً –  أي على صواب. و لن يكون العلم التجريبي، لو أُخذ بذاته مستقلاً، على صواب لو فصلناه عن الرياضيات و المنطق والفلسفة. لكن العمل العلمي – العمل في العلم – هو في بالضرورة يتطلب الاختصاص.

سيكون من الممتع والمفيد أكثر مما تظهره النظرة الأولى، أن نرسم تاريخ علوم الفيزياء والأحياء لنلاحظ كيف كان ازدياد التخصص في عمل المستكشفين. سيبدو حينها واضحاً أن العالِم جيلاً بعد جيل أصبح أكثر مشدداً عليه بالتدريج و مقصوراً  على حقول ضيقة من المهن العقلية. لكن هذه ليست النقطة المهمة التي سيطلعنا عليها هذا التأريخ ولكن العكس تماماً من الأمر: كيف أصبح كل جيل من العلماء – بتقليص مساحة اشتغالهم –  بالتدريج يخسر اتصاله بفروع أخرى من العلم مع ذلك التفسير المتكامل للكون وهو الشئ الوحيد الذي يستحق اسم العلم و اسم الثقافة و اسم الحضارة الأوروبية.

لقد بدأ التخصص بالضبط مع الفترة التي أطلق فيها على الفرد المتمدن وصف "موسوعي". لقد بدأ القرن التاسع عشر مشواره تحت توجيه أولئك الجيل منهم الذين عاشوا "موسوعيين" رغم أن في انتاجهم شئ من الاختصاص. في الجيل الذي تلاه، انقلب التوازن  و بدأ الاختصاص يطرد الثقافة عن الأفراد العلماء.  وفي حوالي 1890م، عندما كان الجيل الثالث تصوّر مستوى من الثقافة في أوروبا، رأينا نوعاً  من العلماء لا مثيل له في التاريخ. هو ذلك النوع الغارق في علم واحد وربما زاويةً واحدة وحسب من ذلك العلم تجعل منه متحرٍّ نشطٍ فيها؛ زاويةً واحدة من بين كل تلك الأمور التي كان يجب أن يكون عارفاً بها ليكون فرداً يستطيع أن يحكمَ ويقررَ. إنه إضافة لذلك، يعلنها فضيلة من أنه لا يهتم بإدراك أي شئ يقع خارج المساحة الضيقة التي يقطنها و يطلق أسم "الهواية" على كل فضول إلى أي نوع من المعارف العامة!

ما يحصل هو أن العالم المحصور في الحدود الضيقة للتخصص المنظور – تحت الاعتبار، لا يتمكن من اكتشاف حقائق جديدة ولا يتمكن من التقدم بالعلم الذي يعرفه بالكاد ولا يصادف أن يؤثث بجديد، الموسوعة الفكرية التي يتجاهلها عن عمدٍ. كيف أصبح هذا ممكناً وكيف مازال ممكناً؟ لهذا يجب أن نُصِرَّ على الحقيقة العجيبة والتي لا نستطيع نكرانها: أن العلم التجريبي تطور بفضل أفراد عاديين عاميين وربما أقل مستوى من ذلك – ويا للعجب!. هذا معناه أن العلم الحديث وهو أساس وسبب ورمز تحضُّرنا، يسمح بمكان للفرد العادي المثقف للعمل فيه والنجاح. وسبب هذا يقع في نفس الوقت بسبب أحد أهم حسنات العلم الجديد وأخطر مخاطره و المدنيّة التي يوجهها ويمثلها وهو "الميكانيكاتية". كثير من الأشياء التي يمكن عملها في الفيزياء والأحياء هي عمل عقلي ميكانيكي يمكن أن ينجزها أي فرد وربما كل فرد من الناس. و بسبب العدد الهائل من الاستكشافات الممكنة، أصبح ممكناً أن نقسم العلم إلى أقسام صغيرة لكي يكون الشخص محصوراً في أحدها خارجاً من اعتبارات كل الأقسام الأخرى. شدة المناهج ودقتها تسمحان بذلك مؤقتاً ولكنه في الحقيقة تفتيت لجسد المعرفة. العلم ننجزه عن طريق استخدام إحدى المناهج - بآلة مثلاً، و لكي نستخلص كثيراً من النتائج فإنه ليس من الضروري أن نتحلى بالصرامة في معاني هذه النتائج ولا أساسها ا لتي بنيت عليه. بهذه الطريقة يساعد غالبية العلماء على تقدم العلم عموماً ولكنهم يصمتون في زايتهم في مختبراتهم تماماً مثل نحلة في زاوتها من الخلية أو مسمار الدوران في عجلته.
لكن هذا يخلق لنا نوعاً من الأشخاص غريباً للغاية. إنه المستكشف الذي اكتشف حقيقة جديدة عن الطبيعة و يشعر بالضرورة بالقوة والثقة بالنفس. وبشئ من حكم الظاهر، سيرى نفسه على أنه "الشخص العارف." وفي الحقيقة ففي نفسه هناك شئ يضاف إلى كثير من الأشياء التي يفتقدها تجعله لا يشكل شيئاً من معرفة. هذه هي الطبيعة الحقيقية في نفس اللمتخصص الذي وصل في سنوات القرن العشرين الأولى إلى مرتبة شديدة من المغالاة. المتخصص الذي يعرف جيداً زاويته الخاصة من الكون و هو شديد الجهل بكل شئ آخر.
هنا، لدينا مثال دقيق لهذا الشخص الجديد العجيب الذي حاولت تعريفه من وجهيه المتعاكسين. قلت إنه إنتاج إنسان لا مثيل له في التاريخ. المتخصص يأتي مثالاً صارخاً من "الأنواع" يوضح لنا طبيعة هذه الطرافة المتطرفة. ذلك لأننا في الماضي، كان الفرد يقسم إلى صنفين: العالم والجاهل: هؤلاء يبدون من هذا الصنف وأولئك يبدون من ذلك الصنف. لكن المتخصص هذا لا يمكن أن نصنفه تحت أي من هذين الصنفين. إنه ليس متعلماً لأنه جاهل بكل ما لا يدخل في تخصصه وهو في الوقت نفسه ليس جاهلاً لأنه "عالم" و "يعرف" جيداً الجزئية الخاصة به من هذا الكون. علينا أن نقول أنه متعلم "غير عارف"  ولكن ليس بطريقة الشخص الجاهل ولكنه ذلك النزق الذي يجعل الشخص متعلماً في خط خاص به.

وهذا في الحقيقة هو سلوك المتخصص. في السياسة وفي الفن وفي الأعراف الاجتماعية وفي العلوم الأخرى، سوف يتبنى المتخصص سلوك الفرد الجاهل البدائي ولكنه ذلك المتخصص في تلك الحالات لا يعترف بذلك – وهنا يأتي التناقض. عندما جعلت الحضارة منه متخصصاً، جعلته محصّناً راضياً عن ذاته في مجال حدوده. ولكن هذه الشعور الداخلي بالتمكن والجدارة ستحثه على أن يتمكن ويتفوق خارج تخصصه. ولكن النتيجة حتى في حالة كهذه – وهي أنه يمثل أعلى درجات الكفاءة الإنسانية – التخصص –  النتيجة هي إذن تلك المعاكسة لإنتاج الفرد بالجملة، النتيجة هي أنه سيتصرف في كل مجالات الحياة مثل الشخص الذي يفتقد الكفاءة – فرد بالجملة.
ليس هناك عبارة أكثر صراحة! من يُرِد فليلاحظ غباء التفكير و الحكم والإجراءات التي تتخذ في السياسة والفن والدين والمسائل العامة في الحياة والعالم على يد "العلماء"  - وطبعاً فيهم الدكاترة والمهندسين والماليين والمدرسين وهكذا. إنها حالة "عدم الاستماع" وعدم التسليم لمحاكم الاستئناف العليا وقد وضعت ذلك مراراً  كصفة من صفات فرد الجملة، وتصل هذه إلى قمتها في أولئك ذوي الكفاءات الجزئية. إنهم يرمزون وإلى درجة كبيرة، إلى غالبية الأفراد بالجملة و وحشيتهم هي السبب الرئيس للفوضى في أوروبا. الأكثر من ذلك، أنهم حملوا أكثر مثال صارخ و واضح في كيف أن حضارة القرن الماضي تُركت وشأنها و ولّدت البدائية والوحشية من جديد.
النتيجة الأكثر مباشرة لهذه التخصصية غير المتوازنة، هي أنه اليوم، في الوقت الذي لدينا علماء أكثر من ذي قبل،  نجد لدينا نسبة أقل من الأشخاص المثقفين من زمن – لنقل -  1750م. والأسوأ من ذلك أنه مع مسامير دوران العلم هذه، ليس هناك التقدم الحقيقي الممكن ضمانه للعلم ذاته. إن العلم يحتاج من وقت إلى وقت، كضرورة تنظمه من أجل فائدته هو، يحتاج عملاً لإعادة التأسيس والصياغة، وكما قلت، هذا يتطلب جهداً من أجل التوحيد وهو جهد يزداد صعوبة و يشمل – كما هو الآن – مساحات أكبر وأكبر من المعرفة. لقد استطاع نيوتن أن يوجد نظامه الفيزيائي دونما حاجة لمعرفة الكثير من الفلسفة، لكن آينشاين احتاج أن يشبع نفسه من "كانت" و ماخ قبل أن يستطيع التوصل إلى صيغته التي اعتزمها. إن "كانت" و ماخ – اسمان هما رمزان لكتلة ضخمة من الفكر الفلسفي والنفسي أثّراً في آينشاين – ساعدا في تحرير عقل آينشتاين وفتحا الطريق لتجديداته. لكن آينشتاين لايكفي. إن الفيزياء تدخل أخطر أزمة في تاريخها ولا يمكن إنقاذها إلا بـ "موسوعة" أكثر نظاماً من سابقتها.

التخصص إذن الذي مكّن من تطوير العلم التجريبي في فترة قرن، اقترب من الوصول لمرحلة لا يستطيع مواصلة التقدم إلا إذا جاء جيل جديد يحمل على عاتقه أن يوفر له شكلاً فاعلاً من مسامير الدوران.

لكن، إذا كان المتخصص جاهلاً بفحوى فلسفة العلوم التي يساهم في تنميتها، فسيكون شديد الجهل بالشروط التاريخية المطلوبة لمواصلة المشوار، أي، كيف للمجتمع  و روح الإنسان أن تكون منظمة  بحيث يستمر وجود|ظهور المستكشفين. إن تقليل المهن العلمية التي لُوحظ في السنوات الأخيرة والتي لمّحتُ له، لَعَرَضٌ من أعراض القلق تصيب كل شخص لديه فكرة واضحة عن ماهية الحضارة، وهي فكرة يفتقدها العالِم – العادي – وهو أعلى قمة في حضارتنا الحالية. إنه يؤمن أيضاً أن الحضارة موجودة بنفس الطريقة التي وجدت فيها قشرة الأرض و الغابات البدائية^.

*كان كاتب المقالة أطلق اسم "بربرية" واستبدلتها بـ "وحشية" لأن الأولى غير مناسبة في نظري.
^الغابات البدائية: هي الغابات التي نمت وتوسعت دون أي تدخل خارجي.

__________
د. والتر ستوارت – اقتصادي في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون في نيوجريسي:
الفيزيائيون الشباب، بعيداً عن أي شك، هم أكثر مجموعة مزعجة و مشاكسة و نشطة ومثقفة و واعية لدينا هنا. يتغير العالم بالنسبة لهم كل اسبوع وهم  ببساطة سعداء بذلك. قبل أيام، سألت أحدهم في خروجهم من مؤتمر ما، " كيف كان؟"، فرد "رائع!، كل شئ كنا نعرفه عن الفيزياء في الأسبوع الماضي أصبح خاطئاً".

::. فاضل التركي
 نشرت في في دروب في أوكتوبر 2013



تعليقات

المشاركات الشائعة