ماذا فعلت بنا الثقافة الشائعة؟

نشر في الكويتية و في دروب في يوليو ٢٠١١


 دوغلاس هوفستادتر*


يتذكر دوغلاس هوفستادتر قبل سنوات، حدثاً كان يصرخ بكل وضوح أننا في عصر جديد ذي ملامح محبطة. كان ابنه داني ذي الثمان سنوات، في التسعينات من القرن الماضي، قد شغف كما شغف كل زملائه في المدرسة بسلسلة كتب جديدة تروي قصص مغامرات عن فتية أذكياء واثقين كانوا يظهرون في هذه القصص أذكى وأكثر حكمة من آبائهم المملين. عندما شرع الأب هوفستادتر يقرأ لابنه من الكتاب ذات مساء، بدأت تفوح رائحة قوية لأفكار خوارق الطبيعة. استمرت الحكاية عن أشياء و مخلوقات تحيط بها كل صنوف القوى السحرية، وبدأ الأمر معقولاً في الحكاية لكأن ما يحدث في القصة هو ما يحدث في حيهم الذي يعيشون فيه كل يوم. لقد كان كل هذا يبشر بأن داني سيكون غارقاً في مثل هذه هذه الأفكار مصدقاً لها و لسوف يكون كل معترض عليها، حاله مثل حال الآباء المملين قليلي الخيال والمتخلفين الذين يملؤون هذه السلسلة من القصص. هكذا خطر ببال هوفستادتر!

الجدير بالذكر، كما يقول هوفستادتر،أن ابنه داني عاد بعد حين بكتاب آخر كان استعاره من مكتبة المدرسة وسرعان ما ظن الأب أن الكتاب سيكون أسواء من سابقه. كان كتاباً يروي قصة شبح! و رغم كل الاستعداد الذي اتخذه هوفستادتر لمثل حكاية كهذه، كانت الحكاية تمضي من حيث أن الآباء المشككين يصلون في النهاية بالاستكشاف والبحث إلى حقيقة أن هذا الشبح هو ولد غريب كان يعيش بالجوار ولم يكن شبحاً. لقد وظف الكتاب العلم و العقلانية و الاستكشاف التجريبي للأحداث الغامضة. هذا الكتاب كتب في الستينات.

يقول هوفستادتر أن غرضه من ذكر هاتين الحكايتين، هو توضيح حقيقة مرة، أن الكتب التي تتبنى العقلانية و التفكير العلمي وفضح الزيف لم تعد مرغوبة ولا منتشرة. هكذا ما بين التسعينات – التي أصبحت مغرقة في الخرافة والزيف، و أجواء الستينات.

في الحقيقة، لقد تبدل كل شئ. ولكي نقترب من توصيف ما حدث ونفهمه و نعيه، لنرجع للوراء لأخذ صورة بانورامية خاطفة ولا نبني فكرتنا على قصة فرد واحد هو ابن هوفستادتر.

في فترة الثلاثينات من القرن العشرين، بدأت تتسم الحياة بالبساطة أكثر، و بدأ التصنيع وبدأت تسهل الحياة، ومن لم يستطع أن يشتري الصحف ويتابع التلفزيون والراديو، في بدايات تكوين المكنة الإعلامية و تتسع اهتماماتها و مساحات فعلها، من لم يستطع الشراء، كان يقرأ الكتب في المكتبة. كتب غالبها كان يستحق أن يطبع مقارنة بكثرة ما يطبع اليوم وقلة ذي الفائدة منه. لم تكن التسلية بعد بدأت تأخذ شيئا من شكلها الذي نعرف اليوم، كانت ألعاب تلك الحقبة الألغاز و ورق اللعب و لعب الطاولة و الرياضة البدنية، وقد نتذكر أن هذه الفترة هي فترة الكساد الاقتصادي العظيم، ولم يكن هناك ما يكفي لدفع المال للتسلية الأغلى ثمناً من هذه.

بدأ مصطلح الثقافة الشعبية في الظهور ما بين الحربين العالميتين. لقد بدأت بوادر ذلك في القرن التاسع عشر وبالخصوص قريبا من نهاياته. إن بداية استخدام المصطلح كانت تعني ثقافة الطبقات الدنيا في المجتمع كنوع من الثقافة يختلف عن ما يمكن تسميته “التعليم الحقيقي” أو “الثقافة الحقيقية” التي تتمتع بها الطبقات العليا. ولقد تحول هذا المصطلح مع الوقت ودخول الصحف والإعلام المسموع والمرئي إلى ما يمكن تسميته بثقافة الاستهلاك العام. ها هي تنسحب وتنتشر في الإعلام والمكتبات و المهرجانات والفعاليات والمناسبات اليومية و تنتقل إلى المؤسسات التعليمية و مؤسسات العمل حتى لكأن الجيل الجديد لا يشعر بأن هناك شيئاً “طبيعيا”، “عادياً” غير هذا. هذا “العادي” الذي ما فتئ يملأ كل العالم من حولك من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب. الأشد ألماً في كل هذا أن البشرية أصبحت قطيعاً من المستهلكين السلبيين الذي لم يتسنى لهم أن يلتفتوا لغير “العادي”، ولم يمنح لهم القرار أو الإرادة ليختاروا. وبدأت تتولد دوائر متداخلة قناعاتها أتت إضافة لما ذكرناه أن من دمر العالم في الحربين العالميتنين هم الذين تعلموا تعليماً عالياً من علماء و مهندسين وعساكر وسياسيين وفنانين، ولتكن الحداثة وما بعدها هو الفعل الانساني. وليتداخل كل هذا في خلطة صنعت كل الفوضى.

وفي هذه العقود، أصبح في كل عقل من عقولنا سؤال نصرح به أو لا نصرح وهو، لماذا يثير دهشتنا الماضون ونستشعر فيهم العظمة و طغيان الفردانية والاستقلال الفردي ونتلمس ونستمتع بعظمة إنجازاتهم، ونستغرب في ذات الوقت من انجازات اليوم و بعدنا عن الابداع والتجديد والشعور بأننا مثل من سبقنا، نستطيع أن نخلق و نختار وننجز ونقدم شيئاً جديداً؟.

هذا شعور شائع ليس في عالمنا العربي وحسب. ما يجلنا مغرقين في “العادي”،أن تربية هذه الثقافة الشعبية خلقت فينا شعوراً سحرياً للابداع ذاته. أصبح جيل الثقافة الشعبية ممن يعتقد أنه مبدع شريحة تستسهل التجديد وتظنه أمر يأتي هكذا بشكل سحري ولا يستحق جهداً و لا تحضيراً ولا بناء حسب قواعد ومقاييس نحن من نبتكرها!

أما من نجا بشكل أو بآخر من هذه التربية، فهم شريحة ربما سار أغلبها بأسلوب فيه للفرد قيمة غير قيمته العددية ولا قيمته الفعلية الاستهلاكية. إن هذه الشريحة القليلة تصنع اليوم إبداعات حقيقية واختراعات وتجدد وتخلق. هذه الشريحة تتعلم المعارف كأنها لها، وتُشرِّحها وتخلق معارفها كما خلق السابقون المعارف وتضع القواعد الجديدة وتبني عليها كل جديد. هذه شريحة قلما تواصل الثقافة الشعبية بينها وبين الناس!

عودة إلى هوفستادتر نفسه، الذي يقارن طفولته بطفولة ابنه، يذكر أنه في سن الثامنة، لم يكن العلم “حبة دواء مُرَّةً لكي تغلف بالسكر” كما يُفعَلُ بالعلوم اليوم. لقد كان العلم بالنسبة له، وقد كان والده فيزيائياً، مجالاً “رومانسيا جذاباً” و “سراً محرضاً” على الاستكشاف. الأحاديث والنشرات التي يجلبها له والده وهو طفل، تحلق به في عوالم الذرة و الالكترونات و البروتونات و النيوترون والفوتون .. إنها تجعله ينتقل إلى كل شئ حوله – تلك لحظة لم يعد كل شئ صامتاً و صلدا – و يلتفت إلى جسمه الذي تكونه هذه الجسيمات وهذه المكونات. لم تكن هذه النشرات تبسط الأفكار وتكسوها بموسيقى الروك وحكايات الأشباح والسحر و لا تهتم بربطها بحكايات لا علاقة لها بالعلم تبسيطاً و ترغيباً وإبعاداً للطفل – و الكبير – من الاعتماد في الفهم على نفسه. لم تكن تجعله يبتعد ويتحاشى التعقيد وينتظر من يعتمد عليه، لكنها كانت تحفزه على الغوص عميقاً في هذه الأسرار التي تتسع به خيالاً من صنع الطفل ذاته ليكون كل شئ فيها يعنيه هو. يشير بهذا هوفستادتر أنْ ها هنا مربط الفرس.

هذا هو جوُّ هوفستادتر و جيله والأجيال التي قبله التي كانت تعلمت كل شئ عميقاً و بشمول على مختلف الموضوعات بلا تدريج ولا تبسيط مخل ولا تثبيط ولا استئصال للذات المتحفزة. جيل يتعلم ويعالج و يعيش ويتفاعل ويعمل بيده في أقصى معارف من قبله تعقيداً ويتعلمها ليكون هو مثلهم، جيل الفرد فيه، حتى لو أحب أن يكون فيزيائياً، فعليه أن يتعلم على الأصول عزف آلة موسيقية و يرسم ويستمتع بأرقى أنواع الأداب و فنون اللغة والكتابة .. أن يكون فرداً مستعداً لحياة جديدة لا تقل عن حياة من قبله مستوى ولا جهدا ولا حماسة ولا شعورا بالمسؤولية.

هكذا نجد صاحبنا هوفستادتر عازف بيانو كاتباً مترجماً عالماً في الجامعة متعدد التخصصات والاهتمامات يربط الفن بالموسيقى بالرياضيات بعلوم الحاسوب بالأدب بكل شئ. هذا نجد آينشتاين في كتاباته يعكس فهمه للكون وللفن والأدب والذات بجانب نظرياته العلمية ورياضياته، وكمانه الذي لا يترك عزفه يلجأ إليه كلما عنّت له معضلة، ولا يتركه في جلساته الأسبوعية وحفلاته الموسيقية العامة التي يشارك فيها. هو هكذا هايزنبرغ و دافنشني و بيتهوفن و ديكسترا و شرائح من جيل نحن أبناؤه أصبحنا فيه بفعل هذا الداء غرباء لا يعرف معظمنا حجم الغربة التي نحن فيها نضحك ونبكي. أصبحنا لا نعرف قيمة الأشياء، وأصبحت الفنون والآداب والعلوم والتسلية الزائفة هي القيّمة، ولم نعرف غيرها، لأنها هي “العادية” و “الطبيعية”. هل نمر على الأفكار التي نتداولها ونظنها علماً أو أدباً أو فهما لما حولنا واستيعاباً، لنرى كم هي زائفة، وأن الحقيقي أصبح يحتاج كثيراً من الجهد والعمل على الذات والهروب من الشائع لكي نكتشفه؟ ربما أكتب عن ذلك قريباً.

قد لا أكون مبالغاً وأنا أعرف أن من هم من سنخ هؤلاء يختارون ما يريدون ويعرفون الأولويات من متع و من عمل و وقت، لا يعرفون التلفزيون كثيراً ولا ما يتمايل من حولهم من موجات البرمجة الاستهلاكية يتسلل إلى العقل من العين والأذن و من كل صوب. لقد استنفدنا في عقود مضت الكثير من الطاقات الانسانية التي تضيع هدراً وعما قريب سنستنفد كل البهجة الزائفة والعلم الزائف والفن الزائف والوقت الزائف ونحاول أن نستدرك ما فات ونستجلب الجديد الذي هو أحق بعمرنا و جهدنا من حياة كهذه.

::. فاضل التركي

*دوغلاس هوفستادتر

[ترجمة عن ويكيبيديا] هو أكاديمي أمريكي يبحث في الوعي و صناعة الأقيسة المجازية و الخلق الفني و الترجمة الأدبية واكتشافات الرياضيات والفيزياء. من أشهر كتبه “جودل و إيشر و باخ، ضفيرة الذهب الأبدية” نال عليه جائزة بولتزر عام 1980.

مصادر واستزادة

  1. http://www.sciencemag.org/content/281/5376/512.full
  2. http://www.nature.com/embor/journal/v4/n12/full/7400040.html
  3. http://en.wikipedia.org/wiki/Popular_culture

تعليقات

المشاركات الشائعة