التعلم من الجهلة

أقصد بالجهلة، الذين لم يكتسبوا ما لديهم من خبرات و مهارات و معارف من خلال التعليم النظامي. و بقدر ما ينتقصهم العامة، و ينتقصون أنفسهم، أجدهم مدهشين مُلهمين وخبراء على درجة متقدمة و متنوعة تشعرك بالعجز!

التعلّم والتعليم النظامي، "اللي زي الناس"، كان من المفترض أن يكون أسهل طريقة لتعليم عدد كبير من الناس "بمقاس واحد" يناسب الجميع، يتعلمون الأساسيات ثم ينتقلون إلى التخصص - المُتوحش - بحيث "يتخرجون" و ينتقلون إلى وظائف و مهام يمارسونها تقوم على هذا الاختصاص، يكون فيها العامل أو الموظف قادراً على تأدية عمله وحسب، كما تعلّم و اكتسب وكفى الله المؤمنين القتال.

لكن هذا، جلب لنا مشاكل أكثر. أصبح الناس مصنوعين كلهم بتعليم - تعليب - واحد. وأكثر من ذلك، أدى بهم ذلك إلى احترام زائد للحدود بين ما أصبح اسمه "مجالات" و "نطاقات" ظاهرها التعمّق في التخصصية والدقة. أصبح الطلاب مجبرون في البداية على تعلّم ما نظن أنه كل شئ نحتاجه للقضاء على "الأمية" وهم هكذا أصبحوا "متعلمين". و بما أننا أجبرناهم، على هذا التعلّم، فهم يتعلّمون "بالجملة" في فصول و لديهم واجبات و مسارات و مواد مستقلة عن بعضها حتى ينتهون و ينتقلون إلى الجامعة في نظام شبيه، تحكمه الكتب والحكاية عن الشيء لا عن معايشته والتجريب والاختبار و التخيل و التمكن من القواعد ثم تكسيرها و تبديلها بغيرها والابتكار ليكون كل فرد "هو"، متميزاً عن غيره. طريقة لا توفر فرصة للمداولة و الأخذ والرد: "هي كذا". لا وقت لذلك في الواقع. لقد صممنا كل شئ لننتهي بأقل عدد من الخسائر و من ذلك المادة المحددة المعارف والأسئلة والاختبارات والتقييم والدرجات و الوثائق والشهادات والتخرج ثم الاندراج في روتين عمل!

أما التعلم غير النظامي، فعالَم مختلفٌ. أنت تتعلم و أنت تعيش ما تتعلمه، وحبك للشيء يأتي من الذات والعائلة و المحيط و من الظروف، لديك الوقت الكافي لأن تعيشه و تسأل و تتداول و تترك و تهجر و تعود و تعشق أكثر من شئ، و تلمع. ولديك مجموعة تختلط بها وتحتكّ و مجتمع يشاركك الحب والشغف، مجتمع مترابط يعطيك وتعطيه و تحيط بك أطياف من التقييم والتقدير و التحدي والمنافسة والتبادل و المزاولة والممارسة الواقعية. إنه عالم لا تأتي إليه مجبراً على الأغلب، ولا ينتهي في مسار ضيق و خطوات تتلو إحداها الأخرى مع تصوّر أن نصل إلى شيءٍ أشبه بنهاية المطاف!

كله تجربة و ردود أفعال، وتفهّم، و سؤال هنا و سؤال هناك و أجوبة متعددة، حتى تقتنع و تمتلك القدرة على الإقناع بالدليل والبرهان العملي والواقعي. هو تلقائي وحيوي و تفاعلي، فردي وجماعي وربما وراثي وعائلي. تتعلم مثلما يتعلم الطفل، و ينمو و يكبر، يكتسب لغته من أمه و أبيه والبيت والأهل والشارع، مثلما يتعلم و يكتسب المشي والكلام والتفكير والسؤال والمكر و الطيبة و و روح النكتة والعادات والتقاليد. ليس مجموعة معارف مكتوبة و مصنفة و تنظيرات و ترتيبات و اختبارات و اجتياز وامتياز. في هذا العالم، هناك دائماً مثل أعلى وقدوة نقلّدها و نحاكيها و ونلمسها، ليست بعيدة في السماء أو الخيال أو مكتوبة في الورق. الكل يستطيع أن يكون و يتميز و يتألق فريداً!

جربنا التعليم النظامي، وجربنا أن نتعلم بأنفسنا، تعليمًا غير نظامي ربما ليس في ظروف كاملة مثل التي وصفتُها، لأن الناس أصبحوا لا وقت لديهم من جراء اشتغالهم بساعات طويلة بالتعليم النظامي الإجباري، إن لم يكن مع ساعات "شقاء"، ولأنه لا حاجة لتخيل طريقة أخرى، وكل الناس يتعلمون هكذا؛ سيبدو كل شئ في شكله "الصحيح والمريح!" ولا ننسى "الدوام" و العمل من أجل لقمة العيش، فلا يبقى إلا فضلة من الوقت للناس يدّخرونها لما يهوون ويعشقون فيما لا يستطيعون أن يعيشوا منه!

يشتكي العالم اليوم قلة الإبداع، والابتكار والاختراع و كم من قائل، أن القدماء لم يتركوا لنا شيئًا و لا يكاد يكون هناك شيء جديد كلياً. ولست هنا بصدد "اسهال الإبداع" الزائف الذي قذفته علينا الثقافة الشائعة.

أظن، أن سبباً رئيساً من أٍسباب ذلك، هو كيف أصبحنا نتعلم ونفهم ونعرف ونتمكن و نصنع. ما الذي يحضر الأمم على ثورة في التعليم؟ اليوم، نرى تربية المعاهد والمدارس الجامعات، مُحبِطة. إن كانوا عازفين أو موسيقيين، فقدرتهم على الإرتجال ضعيفة، و اطلاعهم على ما هو موجود أو ما كان موجوداً قليل، مترددون في التأليف والتلحين واستحداث القوالب و الإتيان بالجديد من أسلوب أو فكر أو مادة. حالهم حال الفنانين التشكيليين و الروائيين والكتاب و المصورين. تلك ظاهرة جلية لكل من كان منبع تربيته الوحيد التعليم النظامي. أما إن كان تعلم خارج هذا السجن الضيق "فلنبشر بالخير"، ولو كانت أكمل "نصف دينه" بالتعليم النظامي ولم يتلوث و يتعقّد.

 كيف تعلم المتنبي و البهاء زهير أن يكونا كذلك، و شيكسبير و أحمد بن فارس بن زكريا صاحب المقاييس و الخليل بن أحمد الفراهيدي و باخ و دافيد و سارجنت و الرسام مصطفى حسين و الرسام حجازي و محيي الدين اللباد و ابن الأثير صاحب المثل السائر؟ كيف جاءنا مثل الشيخ درويش الحريري و سامي الشوا و زكريا أحمد و صالح الكويتي و تاتيوس أفندي و هابيل علييف و أم كلثوم و مصطفى إسماعيل و علي محمود و طه الفشني و عبدالله الفرج و محمد بن فارس و سالم العلان و عبد الوهاب و السنباطي  والقصبجي و محمد القبانجي و شجريان؟ كيف ابتدع عبده داغر كل هذه التمارين و القطع و علم كل هذه الأجيال؟

هل هذه الناس "اللي على باب الله" أنجح في الإبداع والإنجاز والخلود أم النظاميون هم من وقفوا على الباب ولم يدخلوا هذا العالم؟

أطالع سيرة صالح الكويتي، من خلال المقابلات و التسجيلات و الكتابات. ها هو طفل يعشق الشعر، و يذوب من الموسيقى، تأخذه الظروف فيتعلم العود، ثم يعشق الكمان في فيتعلمه و يتجلى و يتميز. سمرات الصوت والجلسات و خالد البكر و المجموعة، ينخرط في فنون الصوت و عوالم الموسيقى في الخليج، وتأخذه الأسطوانات إلى عوالم الموسيقى اليمنية، والحجازية و و المصرية والعراقية و تأخذه البراعة التقدم و سعة الفهم و شركات التسجيلات إلى العراق، فيستقر هناك، يطلبه القبانجي فيستقر و تطلب منه سليمة مراد أن يلحن لها، فيتفاجأ بأن اللحن "طار" و أحبه الناس فيكتشف أنه ملحن! ها هو صالح ملحن الأغنية المعاصرة في العراق، استحوذ على المشهد و على نشاط التسجيلات و إدارة الإذاعة و المساهمة في التلفزيون، تلحينًا و عزفًا و تأليفًا للقطع و الأغاني مبتكراً التقاسيم، واسع الإطلاع و الممارسة في موسيقى الخليج و الحجاز و مصر والعراق في الريف و المدينة و موسيقى الأكراد والمقام و الأساليب الحديثة و تلمس في أقواسه و تكنيكه لمحات متجانسة من التكنيك الغربي والشرقي الكبير التنوع. لماذا لا تطلون على سيرة أخيه داود؟ و مجموعة الموسيقيين العراقيين من آلاتية و مطربين و قراء مقام. لنتعلم!



الصورة المتوارثة الأصيلة لمقام الرست يقدمها صالح الكويتي 



كتاب صبري أبو المجد، غاية في التأثير بتفاصيل حياة و نشاط زكريا أحمد المذيل ببعض يوميات زكريا أحمد التي كتبها بنفسه. زكريا، بكمّ هائل من الألحان والموسيقى "كاملة الدسم"، متنوعة بين المسرح و المنولوجات و الطقاطيق والقصائد و الأدوار والموشحات و قوالب لم نعتد عليها. ولنتذكر الذي اشتغل عليه منذ بداياته و لنتأمل كيف يؤدي. لنتعلم!



التحفجية بصوت "أبو الزيك"



و من ألحانه طقطوقة في أربعة إيقاعات بصوت صالح عبدالحي




أما الشيخ مصطفى اسماعيل، فنحن محظوظون بكثير من الوثائق والكتب و اللقاءات المصورة والمسجلة معه. ما أكثر تنوعه و ابتكاراته و تسجيلات تلاواته المغرقة في الإعجاز و والتناول المقامي والإيقاعي، والإمساك بأسماع الحضور معه و الحضور (حتى اليوم) مع تسجيلاته التي لا تُملّ. تلاوته قالب كبير منظم في تجزئة ما تيسر له تلاوته في وصيلات من وصلات، تقضي معه ساعتين، يصوغ لوحة بعد لوحة لكل موضوع و مقطع، يكرر تناولها بجديد بعد جديد و تصوير بعد آخر و تناولٍ موسيقي غاية في الإتقان. يقول، كنت أسمع تعليق "السميعة"، هذا مقام بياتي و هذا نهاوند و ذلك صبا و أتعلم. أما الشيخ درويش الحريري، فيعلق حين شاهده، أن الفطرة هي خير أستاذ! الشيخ مصطفى اسماعيل، والشيخ درويش الحريري، وغيرهما، كلٌ أستاذ، لكنهم "جهلة"، فلنتعلم!


لوحات تلو أخرى في سورة مريم من هذا التسجيل المختارت من عشرات غيره متوفرة لنفس السورة



كامل الخلعي، المتعدد و الأستاذ والخطاط والرسام والأديب والموسيقي والمؤلف! كيف تعلم نجيب محفوظ فن الرواية، و محمد المنسي قنديل؟ فنان الكاريكاتير مصطفى حسين؟ ماذا عن بيرم التونسي، و عبود الكرخي، كيف تعلّما الشعر الشعبي؟ من أين لهم هذه المعاني والفذلكة والإعجاز؟ المصورون والفنانون التشكيليون و المخرجون والمؤلفون الأوائل؟ ألم يخلدوا؟ ألا يخلد أمثالهم من أولاد اليوم الذي يشربون من نفس نهر "الجهل" و يبحرون فيه كلٌّ حتى يرتوي؟


تسلا



هل درس نيكولا تسلا و اختبر في كل موضوعات اختراعاته و أفكاره؟ تسلا كيف تعلم؟ و الذين اخرعوا فيزياء الكم و أطلق على شغلهم "فيزياء الأطفال" من شرودينجر وهايزنبرغ و بولي و ديراك؟ الشهير آينشتاين ونيلز بور و رذرفورد و فاراداي و باسكال و داروين و رسل و غودل؟

مؤتمر الفيزيائيين في سلافوي عام ١٩٢٧م


إنهم لم يتعلموا هذه الأفكار على مقاعد دراسة نظامية ولم يفصلوا بين الفيزياء والكيماء والرياضيات. إن هؤلاء الجهلة هم آباء المنهج العلمي.

 كذلك الخطاطون الأتراك الكبار و صانعوا العطور و أساتذة الطبخ و الصنايعية. إنهم لا يتبعون وصفات و لا "روشتة" خطوة بخطوة ولا دليل عَمَلي و لا خطوات "اصنعها بنفسك".

محمد سامي أفندي



هؤلاء الجهلة لم ينقرضوا، إنهم بين أيدينا، نرى مجموعة منهم، رغم نشاط برنامج "المصنع العمومي"، و كم يفرحنا و يبث فينا روح الاستيقاظ كلما ظهر لنا نابغة من صنف هؤلاء "الجهلة". حتى الدراسة النظامية، بدأت تتغير. إن مثل هذه المعايشة والتجربة بدأت تتسلل للتعليم العام في فنلندا و السويد ودول في الشرق والغرب ولو على نطاق ضيق. المبتكرون أصبحوا أحراراً في تعلمهم و المجالات التي اختاروها لأنفسهم خارج القوالب والعادات تظهر كل يوم في مجالات التقنية والمنتجات والفنون والمعارف، ولو غلب انتشار الزائف، هذه تحتاج أن نكافحها بالتخلص من الأمية المعاصرة وامتلاك أدوات تساعدنا على الوصول "للدسم".



الذكاء الصناعي الذي بدأ الاهتمام به منذ عقود، قام على أسلوبين، برمجة التفكير و الوصول للنتائج بغض النظر عن أسلوب التكفير. ها نحن اليوم نرى نتائج تجارب ناجحة أشبه بذكاء الإنسان الطبيعي و تتفوق عليه في بعض المجالات و نرى ذلك في تعلم الآلات. لنتعلم! 

لنجرب، صدقاً، أن نكون "جهلة"، و لنحتفل بالنتائج.

* أقترح على القراء الأعزاء أن يتجولوا في سير المذكورين

 ::. فاضل التركي

تعليقات

المشاركات الشائعة