العلم كتفنيد .. ترجمة من مقالة لكارل بوبر

مقتطف من مقالة كتبها كارل بوبر في 1963م، أُعرِّبه إهداءً للصديق العزيزالأستاذ علي آل عمران و لمحبي العلم و فلسفة العلم.




كارل بوبر


عندما استلمت قائمة بالمسجلين في هذا الدرس و عرفت أنه عليّ أن أُحاضر لزملاء الفلسفة، فكّرت بعد ترددٍ وتأسٍ، أنكم ستفضلون أن أحاضر عن أكثر ما يستهويني من مشكلات و عن تلك التطورات التي أنا وثيق الاطلاع عليها. و عليه، فإنني قررت أن أقوم بما لم أقم به من قبل: أن أقدم لكم تقريراً عن شغلي في فلسفة العلوم منذ خريف 1919م، حينما شرعت في التصدي للمشكلة، "متى يمكن نصف نظرية بأنها علمية؟" و "هل هناك معيارٌ للمواصفات العلمية لنظرية ما أو معيار لتحديد مكانتها العلمية؟"


المشكلة التي واجهتني حينها لم تكن: "متى تكون النظرية حقيقة؟" و لا "متى تكون النظرية مقبولة؟" و لكن مشكلتي كانت أُخرى. كنت آمل أن أُفرّق بين "العلم" و "العلم الزائف" ليقيني بأن العلم قد يخطئُ و أن العلم الزائف قد يعثرُ في الحقيقة (يُصيبُ).


و لقد كنت أعرف، طبعاً، الجواب الأكثر قبولاً على سؤالي و هو أن العلم يُميّزُ عن العلم الزائف و عن الماورائيات - الميتافيزيقا - بمنهجه التجريبي، و هو منهج استقرائي، يبدأ بالملاحظة أو التجربة. لكن هذا الجواب لم يرضيني. و على العكس، فقد صغت سؤالي كسؤال للتمييز بين منهج تجريبي أصيل و غير تجريبي أو حتى منهج تجريبي زائف - أقصد منهجا،ً رغم أنه يدين للملاحظة و التجربة إلا أنه لا يرقى للمعايير العلمية. هذا المنهج الأخير يمكن التمثيل له بالتنجيم مع يمتلك من كم هائل من الأدلة التجريبية المبنية على الملاحظة - مبنية على الأبراج والسِّيَر!


لكن السبب لم يكن مثال التنجيم الذي قادني إلى مشكلتي، و ربما عليّ أن أصف باختصار الأجواء الذي وُلدت فيه مشكلتي - أسئلتي - و الأمثلة التي نَبَّهتْ إليها. بعد سقوط الإمبراطورية النمساوية، اندلعت ثورة هناك. و قد كانت الجوّ مشحوناً بالشعارات و الأفكار الثورية و نظريات جديدة و غريبة في أغلب الأحيان. و من بين تلك النظريات التي استرعت اهتمامي، كانت نظرية آينشتاين النسبية و كانت بلا شك أكثرها أهمية. و الثلاث الأخريات كانت نظرية ماركس في التاريخ و نظرية فرويد في التحليل النفسي و نظرية ألفرد أدلر التي تسمى "علم النفس الفردي."


كان هناك الكثير من الهراء و الكلام عن هذه النظريات و خصوصاً عن النسبية ( و هو مستمر حتى اليوم )، ولكني كنت محظوظاً بين أولئك الذين أتيحت لهم الفرصة لدراسة هذه النظرية. كلنا - حلقة الطلاب الصغيرة التي أنا جزء منها - كنا مبهورين بنتائج ملاحظات إدنغتون عن الكسوف عام 1919م و الذي جاء بأول و أهم تأكيد لنظرية إنيشتاين في الجاذبية. لقد كانت تجربة رائعة بالنسبة لنا جميعاً و كان لها تأثير باقٍ على تطور ثقافتي.


النظريات الثلاث التي ذكرت، كانت كانت كثيراً ما يناقشها الطلاب أيضاً في نفس تلك الفترة. و لقد حدث أن التقيت شخصياً بألفرد أدلر إلى درجة أني تعاونت معه في العمل الاجتماعي مع مجموعة من الأطفال و الشبان في مناطق الطبقة العمالية في فيينا حيث أسس عيادات الإرشاد الاجتماعي.


لقد كان ذلك في صيف 1919م، حين شعرت أكثر فأكثر بعدم الرضا عن هذه النظريات الثلاث - النظرية الماركسية للتاريخ و التحليل النفسي و علم النفس الفردي. بدأت في الشعور بالشك حيال إدعاءاتهم المكانة العلمية. سؤالي في البداية أخذ شكله البسيط: " ما مشكلة الماركسية و التحليل النفسي وعلم النفس الفردي؟ لماذا هي شديدة الإختلاف عن العلوم الفيزيائية و عن نظرية نيوتن و بالتحديد عن النظرية النسبية؟"


و لتبيان هذه المفارقة، يجب أن أُنبِّه إلى أنه قليلٌ منا، في ذلك الوقت، قال بتصديق "حقيقة" نظرية آينشتاين في الجاذبية. هذا يوضح أنه ليس الشك في تلك النظريات الثلاث ما أزعجني، و لكنه شئ آخر. و لم يكن لدي أدنى شعور بأن السبب هو كون الفيزياء الرياضية أكثر دقة بالمقارنة بنظرية اجتماعية أو نفسية. ما أقلقني ليس مشكلة الحقيقة - في ذلك الوقت على الأقل - و لا مشكلة الدِّقة و قابلية القياس. ما أقلقني هو شعوري أن النظريات الثلاث الأخرى، رغم أنها تتمظهر كعلم، فإنها تتشارك في أساطير بدائية، أكثر من تشاركها في العلم؛ هي أقرب في الشبه إلى التنجيم منه إلى علم الفلك.


و جدت أن أصدقائي الذين أُعجبوا بماركس و فرويد و أدلر، كانوا معجبين بمجموعة من النقاط مشتركة بين هذه النظريات وبالأخص بقوة التأويل الطاغية عليها. إن هذه النظريات بدت قادرة - عملياً - على شرح و تأويل كل شئ وقع في مجالاتها التي لامستها. إن دراسة أي نظرية منها تشعرك بانطباع تحول فكري أو تجلٍّ فكري و تفتح عينيك على حقيقة جديدة خفية على أولئك الذين لم يشرعوا في دراستها بعدُ. و بمجرد أن فتحت عينيك، رأيتَ شواهد مؤكِّدة في كل مكان: العالم كله مليء بالمؤكدات للنظرية. كلما حَدَثَ شئٌ، أصبح دوماً مؤكِّداً لها. لقد كانت الحقيقة ظاهرة جلية و جاحدوها كانوا - بكل وضوح - هم أولئك الذين لم يريدوا أن يروا الحقيقة الجلية؛ الذين رفضوا رؤيتها؛ ربما بسبب أنها ضد مصالح طبقتهم أو بسبب مكبوتاتهم التي لم "يتم تحليلها" بعدُ و هم بذلك يصرخون عالياً طلباً لعلاج !


أكثر عنصر مهم في هذه القضية، بدا لي، هو سيل التأكيدات و الملاحظات التي تحققت بالنظريات المَعنيّة و هذا العنصر كان دائماً محل التأكيد من قبل المسلِّمين بها. الماركسي لا يستطيع أن يفتح جريدة ولا يرى في كل صفحة منها دليلاً على تفسيره للتاريخ؛ وليس ذلك فقط بالنسبة للأخبار و لكن حتى في شكل الجريدة الظاهر الذي يعكس تحيّز الطبقة التي تصدر الجريدة و بالخصوص طبعاً "ما لم تقله" الجريدة. المحللون الفرويديون دائماً ما أكدوا أن نظرياتهم يتم التحقق منها عن طريق "ملاحظاتهم الكلينيكية". أما بالنسبة لأدلر، فقد كنت مبهوراً بالتجربة الشخصية. مرة، في عام 1919م، رفعت له تقريراً عن حالة ظهرت لي مخالفة للأدلرية تحديداً، ولكن لم يجد صعوبة في تحليلها من خلال نظريته بالشعور بعقدة النقص، هذا بالرغم من أنه لم يقابل الطفل! و لأني صُدِمت، سألته كيف كان له التأكد من ذلك. كان رده: "بسبب خبرتي من ألف تجربة" و عليه لم أستطع أن أبوح له بقولي: "و مع حالة كهذه، أفترض أن خبرتك أصبحت ألف تجربة و تجربة."


ما خطر ببالي هو أن ملاحظاته السابقة قد تكون ليست أكثر عقلانية من هذه الأخيرة و بأن كل واحدة من هذه الملاحظات كانت تُأوّل في ضوء "الخبرات السابقة" و هي في نفس الوقت تُعد كتأكيد إضافيّ. كنت أسأل نفسي: "ماذا، كان ذلك تأكيدا؟ً" ليس ذلك أكثر من حالة تم تأويلها في ضوء نظرية. لكني فكرت، فقلت أن كل شئ يمكن تفسيره في ضوء نظرية أدلر و بالتساوي يمكن تفسيره في ضوء نظرية فرويد و يمكنني توضيح ذلك بضرب مثالين شديدي التباين في السلوك الانساني: مثال الرجل الذي يدفع بطفلٍ إلى الماء ليغرقه و ذلك الرجل الذي يغامر بحياته لإنقاذه. كلا الحالتين يمكن شرحهما بسهولة على السواء بأفكار فرويد و أدلر. عند فرويد، الرجل في المثال الأول يعاني من الكبت - لِنَقُلْ أن به شيئاً من عقدة أوديب، و في المقابل فإن الرجل في المثال الآخر، قد وصل لمرحلة التسامي. أما حسب أدلر، فإن الأول يعاني من عقدة النقص و هذا ما يمكن أن يجعله بحاجة ليثبت لنفسه أنه مُقْدِمٌ على ارتكاب جريمة و هذا هو ما يحدث للرجل الآخر الذي احتاج أن يُقدِمَ على انقاذ الطفل. لم أستطع أن آتي بأي سلوك إنساني لا يمكن تفسيره بهاتين النظريتين. كان الحال دائماً أنهما ملائمتان و أنهما تَصْدُقان و هاتان الحقيقتان دائماً ما كانتا نُصب عين المبهورين بالنظريتين و كانتا أقوى حجتين في صالحهما. و هكذا لاح لي أن هذه القوة الظاهرة كانت بالفعل هي عين ضعفهما.

مع نظرية آينشتاين، الحالة كانت مختلفة بشكل صارخ. خذ مثلًا نموذجياً و هو توقع آينشتاين الذي تم تصديقهُ في تجربة إدنغتون. نظرية جاذبية آيشنتاين انتهت إلى النتيجة، أن الضوء يجب أن ينجذب للأجسام الثقيلة - كالشمس - و لنكون أكثر دقة، مثلما تنجذب الأجسام المادية. و لذلك يمكن حساب أن الضوء القادم من نجم ثابت، كان موقعه قريباً من الشمس، سيصل الأرض من اتجاه يجعل النجم يبدو أبعد قليلاً مما كان عن الشمس. بعبارة أخرى، فإن النجوم التي تكون قريبة من الشمس، ستبدوا أبعد قليلاً عن الشمس و عن بعضها البعض. هذا شئ لا يمكن ملاحظته في العادة، لأن النجوم لن تكون ظاهرة في وضح النهار مع نور الشمس الباهر؛ و لكن في وقت الكسوف، من الممكن أن نأخذ لها صوراً و نأخذ للتجمعات النجمية صوراً في الليل و يمكن للمرء أن يقارن و يحسب المسافات على الصور النهارية والليلية و يتأكد من الظاهرة المتوقعة.


الشئ العجيب في حالة كهذه، هو المخاطرة المتضمنة في تخمين كهذا. إذا كانت الملاحظة أن الظاهرة المتنبأ بها، غائبة تماماً، فإن النظرية تصبح باطلة - مُفنَّدة. النظرية لا تتلائم مع بعض النتائج المُلاحظَة - الواقع، غير متلائمة مع النتائج التي توقعها الجميع قبل آينشتاين[1]. الأمر مختلف تماماً مع الحالة التي وُصفت من قبل، حيث كانت النظريتان متوافقتان مع حالتين بعيدتين من السلوك الإنساني و كان من المستحيل عملياً أن نأتي بأي سلوك إنساني لا يمكن الإدعاء أنه يوافق النظريتين.


هذه الاعتبارات جعلتني في شتاء 1919-1920م أصل لنتائج يمكن أن أصيغها كما يلي:


1. من السهل أن نستخرج المؤكدات و التصديقات لأي نظرية، تقريباً - إذا كنا نبحث عن مؤكدات!


2. المؤكدات يمكن أن نأخذ بها فقط في حال كانت نتيجة لتنبؤاتِ مُخاطَرةٍ، أي، دون أن تكون النظرية في اعتبارنا، علينا أن نتوقع - نتنبأ - بأحداث لا تتوافق معها - أحداث يمكن أن تبطل - و تُفنّد - النظرية.


3. كل نظرية "جيدة"، يجب أن تكون "تحريماً"؛ تحرّم مجموعة من الأمور من أن تقع. كلما كانت النظرية تحرّم أموراً أكثر من أن تقع، كانت أفضل.


4. النظرية التي لا يمكن إبطالها - تفنيديها - بأي حدث ملموس هي غير علمية. عدم قابلية الإبطال و التفنيد ليست حسنة محسوبة للنظرية - كما يعتقد الناس دائماً؛ و لكن العكس.


5. كل اختبار حقيقي لنظرية ما، هو محاولة لإبطالها أو تفنيدها. قابلية الاختبار هي قابلية التفنيد؛ و لكن هناك درجات من قابلية الاختبار: هناك نظرية أكثر قابلية للاختبار و أكثر عرضة للتفنيد من غيرها، إنها تتعرض لكثير من المخاطر.


6. الدلائل المُؤكِّدةُ، لا يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار إلا إذا كانت نتيجة اختبار حقيقي للنظرية و يمكن عرضها كمجموعة من المحاولات الجادة التي فشلت في تفنيد النظرية. ( إني أتحدث الآن عن الأدلة المؤيدة).


7. إن بعض النظريات القابلة للاختبار الحقيقي، إذا تمت تَخطئتُها، يواصل المبهورون بها التمسك بها - مثل أن يضاف للنظرية الاعتباطية افتراضٌ مساعدٌ أو محاولةُ إعادةِ تأويلٍ للنظرية الاعتباطية بطريقة ما لتفادي إبطالها. مثل هذا العمل ممكن دوماً، و لكن هذا يحمي النظرية من التفنيد في مقابل تدميرها أو على الأقل انحدار مكانتها العلمية. شرحت عملية الانقاذ - الحماية - هذه بعدها في ما أسميته "المخارج التقليدية" أو "الحيل التقليدية".


يمكن للمرء أن يلخص كل هذا بالقول أن المعيار للمكانة العلمية لنظرية ما، هو القابلية للتفنيد أو الإبطال أو الاختبار.


ربما يمكن لي أن أُمثل لهذا بمجموعة مختلفة من النظريات كنت ذكرتها. نظرية آينشتاين في الجاذبية، تفي بوضوح بمتطلبات معيار قابلية التفنيد. ذلك صحيح حتى لو كانت الأجهزة في ذلك الوقت لا تسمح لنا أن نحدد نتائج الاختبار بكل ثقة، و لكن كان هناك إمكانية واضحة لتفنيد النظرية.


التنجيم لم يجتز الاختبار. المنجمون كانوا منبهرين جداً و ضائعين مع ما كانوا يؤمنون به من الدلائل المُؤكِّدة - مثلما كانوا غير مبهورين أبداً بالدليل الذي لم يكونوا يفضلون. هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا يجعلون تأويلاتهم و توقعاتهم عمومية بما يكفي لدرجة أنهم كانوا يستطيعون أن يدفعوا كل تفنيد عن نظرياتهم في مقابل لو كانت تأويلاتهم و تنبؤاتهم أكثر دقة. و لكي يتفادوا التفنيد، دمروا قابلية نظرياتهم للاختبار. هذا ما يحتال به المنجمون عادةً، حيث يطلقون تنبؤات من الصعب أن تخطئ و هكذا تصبح غير قابلة للتفنيد.


النظرية الماركسية للتاريخ، على الرغم من العمل الجاد الذي قدمه بعض مؤسسيها و أتباعها، لكنها تتبنى مثل ما يتبنى المنجمون. في صيغها الأولية - مثلا في تحليل ماركس عن ميزات الثورة الإجتماعية القادمة - كانت تنبؤاتهم قابلة للاختبار و في الحقيقة فشلت هذه التنبؤات[2]. و لكن، بدلاً من قبول التفنيد، قام أتباع ماركس بإعادة تأويل النظرية و الدليل من أجل جعلهما متلائمان. و بهذه الطريقة، أنقذوا النظرية من التفنيد و لكن، كان ذلك على حساب تبني وسيلة تجعلها غير قابلة للتفنيد. هكذا، قاموا بحيلة تقليدية في النظرية و بهذه الحيلة دمروا الإدعاء الذي روجوا له كثيراً في السابق من كونها ذات مكانة علمية.


النظريتان التحليليتان تنتميان إلى طبقة مختلفة. لقد كانتا غير قابلتين للاختبار و لا التفنيد. لم يكن هناك سلوك إنساني ملموس يمكن أن يدحضهما. هذا لا يعني أن فرويد و أدلر لم يكونا يريان بعض الأمور بشكلها الصحيح، و شخصياً لا أشك في أن كثيراً مما يقولانه، يحظى بأهمية بالغة و يمكن أن يلعب دوراً في قادم الأيام في علم النفس بحيث يكون قابلاً للاختبار.و لكن، لا يعني ذلك أيضاً أن هذه التحليلات الكلينيكية التي يؤمن المحللون أنها تؤيد نظرياتهم، يمكن أن تقدم أي شئ أكثر من مؤيدات المنجمين التي يجدونها في ممارساتهم[3]. أما بالنسبة لملحمة فرويد عن الأنا و الأنا الأعلى والهو، فهي ليست أكثر قوة في الأدعاء و المكانة العلمية مما كتب هومر في مجموعة حكاياته التي جمعها عن الاولومبيا. هذه النظريات تصف بعض الحقائق و لكن في صورة أساطير. فيها الكثير من الأفكار السيكولوجية الممتعة للغاية و لكن ليست في شكل قابل للاختبار.


في ذات الوقت، أجد أن هذه الأساطير يمكن تطويرها بحيث تصبح قابلة للاختبار؛ و تاريخياً، نقول، كل النظريات العلمية أو معظمها على التقريب، كانت في الأصل نشأت من أساطير، و الأسطورة يمكن أن تحمل بعض التصورات لنظريات علمية. مثال على ذلك نظرية إمبيدوكليس في التطور عن طريق التجربة والخطأ، أو أسطورة بارمينيدس عن الكون الذي لا يتغير و فيه لا يحدث شئ و هي لو أضفنا لها بعدا آخر لأصبحت نظرية آينشتين عن الكون الذي لا يحدث فيه أي شئ، حيث كل شئ فيه، لو آخذنا الأبعاد الأربعة، كل شئ فيه محتوم و وضع هكذا منذ البداية - و الذي أشعرني أن أي نظرية لو وجدناها غير علمية أو ما ورائية - كما يمكن أن نقول - لا يمكن أن نقول عنها غير ذات أهمية أو بلا معنى أو هراء[4]. و لكن في نفس الوقت، لا يمن أن يقال أنها مدعومة بالدليل التجريبي بالمعنى العلمي - رغم أنه من السهل أن تكون كذلك لو أخذناها بالمعنى العمومي، "نتيجةَ ملاحظةٍ."


(هناك كثير من النظريات ضمن هذا التصنيف "ما قبل العلمي" أو "العلمي المزيف" و بعضها كان للأسف مؤثراً مثل تأثير التفسير الماركسي للتاريخ، مثل التفسير العنصري للتاريخ و هي واحدة من تلك النظريات المؤثرة والمفسرة لكل شئ التي تبرك - تُخيّم - على العقول الضعيفة و كأنها نوع من التجلي.( هكذا، المشكلة التي حاولتحلها عن طريق اقتراح معيار التفنيد، لم تكن إذن هي مشكلة "لا معنى" أو "قلة أهمية" و لا مشكلة "حقيقة" أو "قبول". لقد كانت مشكلة وضع حدٍ فاصلٍ - قدر الإمكان - بين مقولات أو نُظُم لمقولات في العلوم التجريبية و مقولات أخرى - سواءً كانت ذات شكلٍ ديني أو "ما ورائي" أو ببساطة، "علمية مزيفة." و بعد سنوات - في حدود 1928 أو 1929م - أسميت هذه المشكلة الأولى "المشكلة الحدودية ." إن معيار التفنيد هو حل لمشكلة الحد الفاصل هذه و هي تقول أن المقولات و نظم المقولات، حتى تكون علمية، يجب أن تستطيع أن تتعارض مع ملاحظات ممكنة الحدوث، ملموسة.

ملاحظات


[1] هناك بعض التبسيط حيث أن نصف ظاهرة أينشتاين يمكن اشتقاقها من النظرية الكلاسيكية حيث تفترض نظرية الضوء الانفجارية - نظرية بث الضوء * كانت نظرية منافسة للنسبية الخاصة - فاضل*


[2] راجع مثلا "المجتمع المفتوح و أعداؤه" الفصل 15 القسم 3 و الملاحظات 13 و 14.


[3] " الملاحظات الكلينيكية" مثل كل الملاحظات الأخرى، هي تأويلات في ضوء نظريات، و لهذا السبب بالتحديد تبدوا داعمة لهذه النظريات في ضوء ما فسرت بها. و لكن الدعم الحقيقي يمكن الحصول عليه من الملاحظات التي أخذت من اختبارات - بمحاولة التفنيد - و لهذا السبب الذي نسميه "معيار التفنيد"، الذي كان يجب نصبه قبل كل شئ، يجب الاتفاق على الحالات التي يجب ملاحظتها - إذا تمت الملاحظة - لتكون النظرية بها قد فندت. و لكن ما هي تلك المحصلات الكلينيكية التي ستفند رضا المُحلل، ليس تفنيداً لتشخيص تحليلي و لكنه تفنيدٌ للتحليل النفسي ككل؟ و هل كان معيار كهذا تمت مناقشته أو قبوله بالنسبة للمحللين؟ ألا يوجد هناك - على العكس - مجموعة من المفاهيم التحليلية مثل "المتناقضات" - لا أقول أن ليس هناك شئ من المتناقضات - ما يجعل الأمر صعباً إن لم تكن مستحيلاً لقبول مثل هذا المعيار؟ إضافة إلى ذلك، كم خطونا في استكشاف السؤال الذي يهتم بمدى التوقعات - الواعية أو غير الواعية - و النظريات التي يتمسك بك المحللُ و تؤثر في هذه الملاحظات الكلينيكية للمريض؟ هذا فضلاً عن قول شئ عن المحاولات الواعية للتأثير على المريض باقتراح تأويلات له .. الخ. قبل سنوات، قدمتُ مفهوم "الظاهرة الأوديبية" لشرح تأثير نظرية أو توقعات أو تنبؤات على حدث تتنبأ به أو تصفه: سوف نتذكر أن سلسلة السبب والمسبب التي تؤدي الى قتل الأب كانت بسبب تنبؤ سحري لهذا الحدث. هذه ميزة و ظاهرة متكررة لمثل هذه الأساطير ولكنها تبدو أنها لم تسترعِ اهتمام المحللين و ربما لم يكن ذلك صدفة. ( مشكلة الأحلام المؤكدة التي يقترحها المحللُ ناقشها فرويد في "مجموعة كتابات" الجزء الثالث 1925م حيث يقول في صفحة 315: "إذا قال أحدهم أن معظم الأـحلام التي يقترحها المحلل - يحفزها - و التي يمكن أن تستخدم في التحليل .. يرجع أصلها إلى اقتراح المحلل، فإن الإعتراض يجب أن يكون من وجهة نظر النظرية التحليلية. و لكن ليس هناك شئ في الحقيقة " يضيف بكل دهشة "و هذا ما سينتقص من اعتمادية نتائجنا."


[4] حال التنجيم هذه الأيام، و هو نموذج للعلم الزائف، يمكن أن تشرح هذه النقطة. لقد هاجمها الأرسطيون و عقلانيون آخرون، حتى أيام نيوتن، هاجموها لسبب خاطئ و هو لفرض مقبول اليوم من أن الكواكب لديها تأثير على الأحداث الأرضية. و في الحقيقة أن نيوتن في نظريته الجاذبية و خصوصاً نظرية تأثير القمر على المد والجزر، كانت تاريخياً، وليدة للتقاليد التنجيمية. و الظاهر أن نيوتن كان متردداً في تبني نظرية أتت من نفس المصدر الذي أتت فيه نظرية أن وباء الانفلونزا جاء من آثار النجوم. و كان جاليليو - لنفس السبب - قد رفض نظرية القمر في المد والجزر و كان مآخذه على كبلر يمكن شرحها بمآخذه على التنجيم. كارل بوبر "تخمينات و تفنيدات" لندن روتليج و كيغان بول 1963م، ص 33-39 من ورقة ثيودور شيك "قراءات في فلسفة العلوم" ماونتين فيو كاليفورنيا، شركة ميفيلد للطباعة والنشر 2000م ص 9-13



* نشرت هذه الترجمة في مارس 2014 على دروب و قد طلبها الأصدقاء فأعدت نشرها هنا
::. فاضل التركي

تعليقات

المشاركات الشائعة