جولة في "ميتودات الموسيقى" في العالم 1


بودي أن أستعرض معكم مجموعة من مناهج تعليم الموسيقى، أو كما يطلق عليها عموماً، اسم "ميتودات". تلك الميتودات التي تهتم بتربية "الموسيقي" منذ صغره، أو تهتم بالصغار والكبار  معاً، أو بالكبار على حدة. المناهج التي تهتم بآلة واحدة، أو آلات متعددة، أو بالموسيقى والغناء معاً. في هذه الجولة، سأحاول أن أشير إلى أهم الأفكار ودواعي نجاح هذه المناهج، ما كان منها ملتزماً بخطة تطور دقيقة وتلك  التي لا تبين لها خطة واضحة. ولقد قضيت من جهدي و وقتي كثيراً، منذ زمن، أتأمل في هذه المناهج من شتى بقاع العالم، ما اشتهر منها و ما ندر، بكثير من المتعة والملاحظة. عسى أن يستعين القارئ هنا، بما يجده هنا لمزيد من التفاصيل فيما يلفت انتباهه ويحفز فكره فيحسن من فهمه ويزيد من براعته في تربية ذائقته و مهاراته أو ذائقة و مهارات الآخرين.

أشكر "المحرض" الدكتور الفنان أحمد  الصالحي الذي دفعني للكتابة في هذا المجال من أجل فائدة شريحة المهتمين.
سأبدأ أولاً باستعراض منهج سوزوكي مع التركيز على المنهج وفلسفته مع تقدمة ضرورية لتيسير فهمنا للمنهج.

منهج سوزوكي

عاش سينيجي سوزوكي بين 1898 و1998، في أسرة فيها 12 طفلاً. وقد اشتغل  مع أبيه في مصنع كمان قبل أن يسحره ميشكا إيلمان في إحدى تسجيلاته على الأسطوانة. ولقد قرر حينها أن يتعلم العزف على الكمان، وكان يستعين بتقليد ما يسمع. وفي  عمر العشرينات، سافر إلى ألمانيا ليتعلم الكمان، و ذكر أنه التقى آينشتاين و تعلم عند كارل كلنغلار. 

لقد لاحظ أنه يلاقي صعوبة في تعلم اللغة الألمانية، في الوقت الذي يرى الأطفال الألمان يتعلمون اللغة من أهليهم في وقت قصير، حالها حال كل طفل يتعلم لغة أهله دون أين يعي ذلك. وحينها، كان يتساءل عن تعلم الكمان و الموسيقى، ألا يمكن أن نتعلمهما مثلما نتعلم اللغة الأم؟ هكذا كانت ملامح منهجه – فلسفته - تتبلور عندما عاد إلى اليابان و اشتغل يدرس الأطفال ذوي السنوات الثلاث فما فوق. 

كيف يتعلم الأطفال اللغة الأم؟ مع آبائهم. يتعلمونها بالتكرار والإعادة  و رؤية المثال وفي أحضان الأسرة وبالحب والتشجيع  و بالاستماع و التقليد. لماذا لا يتعلم الأطفال الموسيقى والآلات الموسيقية مثلما يتعلمون لغتهم الأم؟ 
في ظنه، أن الإنسان لا يولد بموهبة، وإنما نحن من نربي فيهم المهارات ويربي الإنسان نفسه على اكتسابها. إنه يوسع التعلم الموسيقي إلى بناء جيل نبيل وإنسان كامل.

لقد وسّع الفكرة لتتجاوز الكمان إلى الآلات الأخرى من الفيولا والبيانو والفلوت و غيرها الكثير ويعتقد أن هذه الأفكار كفيلة بمساعدة الأساتذة على اخترع المنهج– تحت مظلة هذه الفلسفة -  المناسب للتلاميذ لكي يصلوا إلى الهدف. 
في منهج سوزوكي، يبدأ الأطفال تعلم الكمان معه في عمر الثلاث سنوات كأقصى حد مبكر. والطفل لا يواجه الأستاذ، بقدر ما نتيح له فرصة تقليد والده. يشجع سوزوكي الوالدين على تعلم الإمساك بالكمان والعزف عليه والحضور في الدروس الأولى عند الأستاذ يتعلم منه، يرافقه الطفل، يشعر بالأمان ويرى والده يمسك بالكمان ويعزف ويتلقى التعليمات و يتطور. يتعلم معه في البيت، ثم يقلد الطفل والده ويطلب الكمان ليمسك به ويعزف عليه مثلما يعزف والده عليه. هكذا يتلقى الطفل المهارة والموسيقى مثلما يتلقى لغته الأم في البيت. يعاودون ممارسة العزف في البيت معاً ويسمعون الموسيقى معاً من التسجيل، ثم يعودون للدرس. تمر الأيام ويستغني الطفل عن والده في التعلم والتقليد و يتطور. يخلق سوزوكي بيئة "فيها عودة للطبيعة" والأسرة. يبتعد قدر الإمكان عن فكرة المراحل ومقارنة الأطفال ومستوياتهم  بعضها بالبعض.

يتكئ سوزوكي على عملية السماع للمقطوعات التي يعزفها الأطفال. عليهم أن يعيدوا السماع لمقطوعات مراراً وتكراراً بشكل مستمر قدر الإمكان. تبدأ كتب سوزوكي العشرة بقطع بسيطة وتراثية  من الموسيقى الأوروبية و يطور من هذه المقطوعات ويلعب على تنويعها و تشكيلها لينمي مهارات القوس والإيقاع و النغم و حركة الأصابع ويعالج مشكلة بعد أخرى. بمجرد أن تتطور ملكة السمع عند الطفل، وتتقدم، يبدأ سوزوكي في تعليم الطفل قراءة النوتة والعزف. وهكذا تتقدم المهارات والمقطوعات في الكتب حتى تصل إلى مقطوعات أكثر صعوبة و مقطوعات شهيرة من التراث الموسيقي الأوروبي لباخ و موزارت و بيتهوفن و غيرهم. 

دروس سوزوكي الأسبوعية و الدورية قد تكون في شكل فردي أو شكل جماعي حيث يعزف الطفل منفرداً أو مع مجموعة أطفال، أو يرافقه بيانوو أشكال أخرى متعددة، و عادة ما يختتم الموسم بعرض عام فيه العزف الجماعي و تكريم الأطفال.

يحتفل محبو سوزوكي هذا العام والعام الماضي – 2016 و 2017، والعالم بأشهر منهج لتعليم الموسيقى وتربية المهارات، بمناسبة مرور سبعين عاماً على تأسيس مدرسة سوزوكي الأولى في 1946م في اليابان قبل أن تنتشر في أوروبا و أمريكا و يصبح لها معاهد في كل مكان و أساتذة مدربين على هذه المنهج و عدد هائل من الأطفال والعازفين الذين ينضمون ويتخرجون كل عام ويصبحون عازفين في فرق شهيرة كعازفين فرديين أو عازفين مرافقين، و عدد هائل من الذين يبقى معهم حب الموسيقى بقية حياتهم. لقد أصبح الآباء و الأساتذة مهووسين بفكرته و يتهافتون لتسجيل أولادهم في برامج طيلة العام فضلا عن الالتحاق بالبرامج الصيفية. فكرة سوزوكي، نالت الكثير من الحظ والشهرة و تبنتها مجموعة أخرى من المناهج التي ظهرت فيما بعد في أوروبا و أمريكا والهند و تبنتها بعض المدارس في التعليم العام و توسعت في الآلات و تنوعت في الفئات العمرية.







هوامش:
في كتاب  سوزوكي المعنون بـ Nurtured by Love، يتحدث عن منهجه و ذكرياته في عمره المديد و نجاحاته و يطرزه بالقصص واللطائف . هذا الكتاب، يسهم في إعطاء فكرة قريبة من صاحب المنهج و كيف تيسر له تكون هذه الفلسفة و كيف يرى فكرة تربية المهارات و أنصح بقراءته. 

ملاحظة: هناك من لديه بعض المواقف التي تخالف سوزوكي و منهجه و تتباين هذه المواقف في الحدة تنوعاً بين الحقائق التاريخية و فاعلية المنهج و المناهج المنافسة القديمة والحديثة و نقاط القوة والضعف. والعبرة هنا بالفائدة من كل المناهج في ما يحقق التقدم والنجاح و بلوغ الأهداف المرجوة.

::. فاضل التركي






تعليقات

المشاركات الشائعة